فصل: تفسير الآيات رقم (12- 26)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏4‏)‏ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

الجوارح‏:‏ الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين‏.‏ وسميت بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالباً، أو لأنها تكتسب، يقال امرأة‏:‏ لا جارح لها، أي لا كاسب‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏ويعلم ما جرحتم بالنهار‏}‏ أي ما كسبتم‏.‏ ويقال‏:‏ جرح واجترح بمعنى اكتسب‏.‏

المكلب بالتشديد‏:‏ معلم الكلاب ومضرّيها على الصيد، وبالتخفيف صاحب كلاب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ رجل مكلب ومكلب وكلاب صاحب كلاب‏.‏

الغسل في اللغة‏:‏ إيصال الماء إلى المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد ونحوها قاله بعضهم، وقال آخرون‏:‏ هو إمرار الماء على الموضع، ومن ذلك قول بعض العرب‏:‏

فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها *** المرفق‏:‏ المفصل بين المعصم والعضد، وفتح الميم وكسر الراء أشهر‏.‏ الرجل‏:‏ معروفة، وجمعت على أفعل في القلة والكثرة‏.‏ والكعب‏:‏ هو العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل‏.‏ الحرج‏:‏ الضيق، والحرج الناقة الضامر، والحرج النعش‏.‏

‏{‏يسألونك ماذا أحل لهم‏}‏ سبب نزولها فيما قال‏:‏ عكرمة ومحمد بن كعب، سؤال عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة‏.‏ ماذا يحل لنا من هذه الكلاب‏؟‏ وكان إذ ذاك أمر الرسول بقتلها فقتلت حتى بلغت العواصم لقول جبريل عليه السلام‏:‏»إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب«وفي صحيح أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى أبي رافع‏.‏

قال‏:‏»أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب«، فقال الناس‏:‏ يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها‏؟‏ فأنزل الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم الآيات‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل قالا‏:‏ يا رسول الله، إنا نصيد بالكلاب والبزاة، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية لتأخذ البقر والحمروالظباء والضب، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها‏؟‏ فنزلت‏.‏ وعلى اعتبار السبب يكون الجواب أكثر مما وقع السؤال عنه، لأنهم سألوا عن شيء خاص من المطعم، فأجيبوا بما سألوا عنه، وبشيء عام في المطعم‏.‏

ويحتمل أن يكون ماذا كلها استفهاماً، والجملة خبر‏.‏ ويحتمل أن يكون ما استفهاماً، وذا خبراً‏.‏ أي‏:‏ ما الذي أحل لهم‏؟‏ والجملة إذ ذاك صلة‏.‏ والظاهر أنّ المعنى‏:‏ ماذا أحل لهم من المطاعم، لأنه لما ذكر ما حرم من الميتة وما عطف عليه من الخبائث، سألوا عما يحل لهم‏؟‏ ولما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب‏.‏ ويجوز في الكلام ماذا أحل لنا، كما تقول‏:‏ أقسم زيد ليضربن ولأضربن، وضمير التكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم، كأنه قيل‏:‏ يقولون‏:‏ ماذا أحل لهم انتهى‏.‏

ولا يحتاج إلى ما ذكر، لأنه من باب التعليق كقوله‏:‏ سلهم أيهم بذلك زعيم، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك‏.‏ ونصّوا على أنّ فعل السؤال يعلق، وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنه سبب للعلم، فكما تعلق العلم فكذلك سببه‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا‏:‏ ماذا أحل لهم ومعلوم أن ذلك باطل، لأنهم لا يقولون ذلك، وإنما يقولون‏:‏ ماذا أحل لنا‏.‏ بل الصحيح‏:‏ أنّ هذا ليس حكاية كلامهم بعبارتهم، بل هو بيان كيفية الواقعة انتهى‏.‏

‏{‏قل أحل لكم الطيبات‏}‏ لما كانت العرب تحرم أشياء من الطيبات كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، بغير إذن من الله تعالى، قرر هنا أنّ الذي أحل هي الطيبات‏.‏ ويقوي قول الشافعي‏:‏ أن المعنى المستلذات، ويضعف أن المعنى‏:‏ قل أحل لكم المحللات، ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث‏}‏ كالخنافس والوزع وغيرهما‏.‏ والطيب في لسان العرب يستعمل للحلال وللمستلذ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة‏.‏ والمعتبر في الاستلذاذ والاستطابة أهل المروءة والأخلاق الجميلة، كان بعض الناس يستطيب أكل جميع الحيوانات‏.‏ وهذه الجملة جاءت فعلية، فهي جواب لما سألوا عنه في المعنى لا على اللفظ، لأن الجملة السابقة وهي‏:‏ ماذا أحل لهم اسمية، وهذه فعلية‏.‏

‏{‏وما علمتم من الجوارح مكلبين‏}‏ ظاهر علمتم يخالف ظاهر استئناف مكلبين، فغلّب الضحاك والسدي وابن جبير وعطاء ظاهر لفظ مكلبين فقالوا‏:‏ الجوارح هي الكلاب خاصة‏.‏ وكان ابن عمر يقول‏:‏ إنما يصطاد بالكلاب‏.‏ وقال هو وأبو جعفر‏:‏ ما صيد بغيرها من باز وصقر ونحوهما فلا يحل، إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه‏.‏ وجوز قوم البزاة، فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم‏.‏ وغلب الجمهور ظاهر‏:‏ وما علمتم، وقالوا‏:‏ معنى مكلبين مؤدبين ومضرين ومعودين، وعمموا الجوارح في كواسر البهائم والطير مما يقبل التعليم‏.‏ وأقصى غاية التعليم أنْ يشلي فيستشلي، ويدعى فيجيب، ويزجر بعد الظفر فينزجر، ويمتنع من أن يأكل من الصيد‏.‏ وفائدة هذه الحال وإن كانت مؤكدة لقوله‏:‏ علمتم، فكان يستغنى عنها أن يكون المعلم مؤتمراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به، واشتقت هذه الحال من الكلب وإن كانت جاءت غاية في الجوارح على سبيل التغليب، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه‏.‏

قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ وإنما قيل مكلبين، لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب انتهى‏.‏ واشتقت من الكلب وهي الضراوة يقال‏:‏ هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أو لأن السبع يسمى كلباً، ومنه قوله عليه السلام‏:‏ «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك» فأكله الأسد، ولا يصح هذا الاشتقاق، لأنّ كون الأسد كلباً هو وصف فيه، والتكليب من صفة المعلم، والجوارح هي سباع بنفسها لا بجعل المعلم‏.‏

وظاهر قوله‏:‏ وما علمتم، أنه خطاب للمؤمنين‏.‏ فلو كان المعلم يهودياً أو نصرانياً فكره الصيد به الحسن، أو مجوسياً فكره الصيد به‏:‏ جابر بن عبد الله، والحسن، وعطاء، ومجاهد، والنخعي، والثوري، وإسحاق‏.‏ وأجاز أكل صيد كلابهم‏:‏ مالك، وأبو حنيفة، والشافعي إذا كان الصائد مسلماً‏.‏ قالوا‏:‏ وذلك مثل شفرته‏.‏ والجمهور‏:‏ على جواز ما صاد الكتابي‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا يجوز فرق بين صيده وذبيحته‏.‏ وما صاد المجوسي فالجمهور على منع أكله‏:‏ عطاء، وابن جبير، والنخعي، ومالك، وأبو حنيفة، والليث، والشافعي‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ فيه قول أنهم أهل كتاب، وأن صيدهم جائز، وما علمتم موضع ما رفع على أنه معطوف على الطيبات، ويكون حذف مضاف أي‏:‏ وصيد ما علمتم، وقدره بعضهم‏:‏ واتخاذ ما علمتم‏.‏ أو رفع على الابتداء، وما شرطية، والجواب‏:‏ فكلوا‏.‏ وهذا أجود، لأنه لا إضمار فيه‏.‏

وقرأ ابن عباس وابن الحنفية‏:‏ وما عُلمتم مبنياً للمفعول أي‏:‏ من أمر الجوارح والصيد بها‏.‏ وقرأ‏:‏ مكلبين من أكلب، وفعل وأفعل، قد يشتركان‏.‏ والظاهر دخول الكلب الأسود البهيم في عموم الجوارح، وأنه يجوز أكل صيده، وبه قال الجمهور‏.‏ ومذهب أحمد وجماعة من أهل الظاهر‏:‏ أنه لا يجوز أكل صيده، لأنه مأمور بقتله، وما أوجب الشرع قتله فلا يجوز أكل صيده‏.‏ وقال أحمد‏:‏ لا أعلم أحداً رخص فيه إذا كان بهيماً وبه قال‏:‏ ابن راهويه‏.‏ وكره الصيد به‏:‏ الحسن، وقتادة، والنخعي‏.‏ وقد تقدم ذكر أقصى غاية التعليم في الكلب، أنه إذا أمر ائتمر، وإذا زجر انزجر‏.‏ وزاد قوم شرطاً آخر وهو أن لا يأكل مما صاد، فأما سباع الطير فلا يشترط فيها الأكل عند الجمهور‏.‏ وقال ربيعة‏:‏ ما أجاب منها فهو المعلم‏.‏ وقال ابن حبيب‏:‏ لا يشترط فيها إلا شرط واحد‏:‏ وهو أنه إذا أمرها أطاعت، فإن انزجارها إذا زجرت لا يتأتى فيها‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ وما علمتم، حصول التعليم من غير اعتبار عدد‏.‏ وكان أبو حنيفة لا يجد في ذلك عدداً‏.‏ وقال أصحابنا‏:‏ إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات فقد حصل له التعليم‏.‏ وقال غيرهم‏:‏ إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد صار معلماً‏.‏

‏{‏تعلمونهنّ مما علمكم الله‏}‏ أي‏:‏ إنّ تعليمكم إياهنّ ليس من قبل أنفسكم، إنما هو من العلم الذي علمكم الله، وهو أن جعل لكم روية وفكراً بحيث قبلتم العلم‏.‏ فكذلك الجوارح بصبر لها إدراك مّا وشعور، بحيث يقبلن الائتمار والانزجار‏.‏ وفي قوله‏:‏ مما علمكم الله، إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان‏.‏ ومفعول علم وتعلمونهنّ الثاني محذوف تقديره‏:‏ وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهنّ تعلمونهنّ ذلك، وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام أكله، لأنّ الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم‏.‏

والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله‏:‏ فكلوا مما أمسكن عليكم، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه‏.‏ ومعنى مما علمكم الله أي‏:‏ من الأدب الذي أدّبكم به تعالى، وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه، فإذا أمر فائتمر، وإذا زجر فانزجر، فقد تعلم مما علمنا الله تعالى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ مما علمكم الله من كلم التكليف، لأنه إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل انتهى‏.‏ والجملة من قوله‏:‏ تعلمونهن، حال ثانية‏.‏ ويجوز أن تكون مستأنفة على تقدير‏:‏ أن لا تكون ما من قوله‏:‏ وما علمتم من الجوارح، شرطية، إلا إن كانت اعتراضاً بين الشرط وجزائه‏.‏ وخطب الزمخشري هنا فقال‏:‏ وفيه فائدة جليلة وهي أنّ كل آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من قبل أهله علماً وأبحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، واحتاج إلى أن تضرب إليه أكباد الإبل، فكم من أخذ من غير متقن فقد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله‏.‏

‏{‏فكلوا مما أمسكن عليكم‏}‏ هذا أمر إباحة‏.‏ ومِن هنا للتبعيض والمعنى‏:‏ كلوا من الصيد الذي أمسكن عليكم‏.‏ ومن ذهب إلى أن مِن زائدة فقوله ضعيف، وظاهره أنه إذا أمسك على مرسله جاز الأكل سواء أكل الجارح منه، أو لم يأكل، وبه قال‏:‏ سعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وأبو هريرة، وابن عمر‏.‏ وهو قول مالك وجميع أصحابه‏.‏ ولو بقيت بضعة بعد أكله جاز أكلها ومن حجتهم‏:‏ أنّ قتله هي ذكاته، فلا يحرم ما ذكى‏.‏ وقال أبو هريرة أيضاً وابن جبير، وعطاء، وقتادة، وعكرمة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ لا يؤكل ما بقي من أكل الكلب ولا غيره، لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على مرسله‏.‏ ولأنّ في حديث عديّ»وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه«وعن عليّ‏:‏»إذا أكل البازي فلا تأكل«وفرق قوم ما أكل منه الكلب فمنعوا من أكله، وبين ما أكل منه البازي، فرخصوا في أكله منهم‏:‏ ابن عباس، والشعبي، والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبو جعفر محمد بن عليّ الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، لأنّ الكلب إذا ضرب انتهى، والبازي لا يضرب‏.‏ والظاهر أنّ الجارح إذا شرب من الدم أكل الصيد، وكره ذلك سفيان الثوري‏.‏ والظاهر أنه إذا انفلت من صاحبه فصاد من غير إرسال أنه لا يجوز أكل ما صاد‏.‏ وقال عليّ، والأوزاعي‏:‏ إن كان أخرجه صاحبه للصيد جاز أكل ما صاد‏.‏ وممن منع من أكله إذا صاد من غير إرسال صاحبه‏:‏ ربيعة، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأبو ثور‏.‏ والظاهر جواز أكل ما قتله الكلب بفمه من غير جرح لعموم مما أمسكن‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا يجوز لأنه ميت‏.‏

‏{‏واذكروا اسم الله عليه‏}‏ الظاهر عود الضمير في عليه إلى المصدر المفهوم من قوله‏:‏ فكلوا، أي على الأكل‏.‏

وفي الحديث في صحيح مسلم ‏"‏ سم الله وكل مما يليك ‏"‏ وقيل‏:‏ يعود على ما أمسكن، على معنى‏:‏ وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته، وهذا فيه بعد‏.‏ وقيل‏:‏ على ما علمتم من الجوارح أي‏:‏ سموا عليه عند إرساله لقوله‏:‏»إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل«واختلفوا في التسمية عند الإرسال‏:‏ أهي على الوجوب‏؟‏ أو على الندب‏؟‏ والمستحب أن يكون لفظها بسم الله والله أكبر‏.‏ وقول من زعم‏:‏ إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وإنّ الأصل‏:‏ فاذكروا اسم الله عليه وكلوا مما أمسكن عليكم، قول مرغوب عنه لضعفه‏.‏

‏{‏واتقوا الله إن الله سريع الحساب‏}‏ لما تقدم ذكر ما حرَّم وأحلَّ من المطاعم أمر بالتقوى، فإنّ التقوى بها يمسك الإنسان عن الحرام‏.‏ وعلل الأمر بالتقوى بأنه تعالى سريع الحساب لمن خالف ما أمر به من تقواه، فهو وعيد بيوم القيامة، وأن حسابه تعالى إياكم سريع إتيانه، إذ يوم القيامة قريب‏.‏ أو يراد بالحساب المجازاة، فتوعد مَن لم يتق بمجازاة سريعة قريبة، أو لكونه تعالى محيطاً بكل شيء لا يحتاج في الحساب إلى مجادلة عدّ، بل يحاسب الخلائق دفعة واحدة‏.‏ ‏{‏اليوم أحل لكم الطيبات‏}‏ فائدة إعادة ذكر إحلال الطيبات التنبيه بإتمام النعمة فيما يتعلق بالدنيا، ومنها إحلال الطيبات كما نبه بقوله‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي‏}‏ على إتمام النعمة في كل ما يتعلق بالدين‏.‏ ومن زعم أنّ اليوم واحد قال‏:‏ كرره ثلاث مرات تأكيداً، والظاهر أنها أوقات مختلفة‏.‏ وقد قيل في الثلاثة‏:‏ إنها أوقات أريد بها مجرد الوقت، لا وقت معين‏.‏ والظاهر أنّ الطيبات هنا هي الطيبات المذكورة قبل‏.‏

‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم‏}‏ طعامهم هنا هي الذبائح كذا قال معظم أهل التفسير‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ ما كان من نوع البر والخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة لا يختلف في حلها باختلاف حال أحد، لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشرة لها كتابياً، أو مجوسياً، أم غير ذلك‏.‏ وأنها لا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة، ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى‏.‏ وذهب قوم إلى أنّ المراد بقوله‏:‏ وطعام، جميع مطاعمهم‏.‏ ويعزي إلى قوم ومنهم بعض أئمة الزيدية حمل الطعام هنا على ما لا يحتاج فيه إلى الذكاة كالخبز والفاكهة، وبه قالت الإمامية‏.‏ قال الشريف المرتضى‏:‏ نكاح الكتابية حرام، وذبائحهم وطعامهم وطعام من يقطع بكفره‏.‏ وإذا حملنا الطعام على ما قاله الجمهور من الذبائح فقد اختلفوا فيما هو حرام عليهم، أيحل لنا أم يحرم‏؟‏ فذهب الجمهور إلى أنّ تذكية الذمي مؤثرة في كل الذبيحة ما حرم عليهم منها وما حل، فيجوز لنا أكله‏.‏

وذهب قوم إلى أنه لا تعمل الذكاة فيما حرم عليهم، فلا يحل لنا أكله كالشحوم المحضة، وهذا هو الظاهر لقوله‏:‏ وطعام الذين أوتوا الكتاب، وهذا المحرم عليهم ليس من طعامهم‏.‏ وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك‏.‏

والظاهر حل طعامهم سواء سموا عليه اسم الله، أم اسم غيره، وبه قال‏:‏ عطاء، والقاسم بن بحصرة، والشعبي، وربيعة، ومكحول، والليث، وذهب إلى أنّ الكتابي إذا لم يذكر اسم الله على الذبيحة وذكر غير الله لم تؤكل وبه قال‏:‏ أبو الدرداء، وعبادة بن الصامت، وجماعة من الصحابة‏.‏ وبه قال‏:‏ أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك‏.‏ وكره النخعي والثوري أكل ما ذبح وأهلّ به لغير الله‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ «أوتوا الكتاب» أنه مختص ببني إسرائيل والنصارى الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، دون مَن دخل في دينهم من العرب أو العجم، فلا تحل ذبائحهم لنا كنصارى بني تغلب وغيرهم‏.‏ وقد نهى عن ذبائحهم عليّ رضي الله عنه، وقال‏:‏ لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر‏.‏ وذهب الجمهور ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وابن المسيب، والشعبي، وعطاء، وابن شهاب، والحكم، وقتادة، وحماد، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه‏:‏ أنه لا فرق بين بني إسرائيل والنصارى ومن تهوّد أو تنصر من العرب أو العجم في حل أكل ذبيحتهم‏.‏ والظاهر أنّ ذبيحة المجوسي لا تحل لنا لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب‏.‏ وما روي عن مالك أنه قال‏:‏ هم أهل كتاب وبعث إليهم رسول يقال‏:‏ رزادشت لا يصح‏.‏ وقد أجاز قوم أكل ذبيحتهم مستدلين بقوله‏:‏ ‏{‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏}‏‏.‏ وقال ابن المسيب‏:‏ إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ وإنْ أمر بذلك في الصحة فلا بأس‏.‏ والظاهر أنّ ذبيحة الصابئ لا يجوز لنا أكلها، لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب‏.‏ وخالف أبو حنيفة فقال‏:‏ حكمهم حكم أهل الكتاب‏.‏ وقال صاحباه‏:‏ هم صنفان، صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة، وصنف لا يقرأون كتاباً ويعبدون النجوم، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب‏.‏

‏{‏وطعامكم حل لهم‏}‏ أي‏:‏ ذبائحكم وهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب‏.‏ لما كان الأمر يقتضي أن شيئاً شرعت لنا فيه التذكية، ينبغي لنا أن نحميه منهم، فرخص لنا في ذلك رفعاً للمشقة بحسب التجاوز، فلا علينا بأس أن نطعمهم ولو كان حراماً عليهم طعام المؤمنين، لما ساغ للمؤمنين إطعامهم‏.‏ وصار المعنى‏:‏ أنه أحل لكم أكل طعامهم، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم، والحل الحلال ويقال في الاتباع هذا حل بل‏.‏

‏{‏والمحصنات من المؤمنات‏}‏ هذا معطوف على قوله‏:‏ وطعام الذين أوتوا الكتاب‏.‏ والمعنى‏:‏ وأحل لكم نكاح المحصنات من المؤمنات‏.‏

‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ والإحصان أن يكون بالإسلام وبالتزويج، ويمتنعان هنا، وبالحرية وبالعفة‏.‏

فقال عمر بن الخطاب، ومجاهد، ومالك، وجماعة‏:‏ الإحصان هنا الحريّة، فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية‏.‏ وقال جماعة‏:‏ منهم مجاهد، والشعبي، وأبو ميسرة، وسفيان، الإحصان هنا العفة، فيجوز نكاح الأمة الكتابية‏.‏ ومنع بعض العلماء من نكاح غير العفيفة بهذا المفهوم الثاني‏.‏ قال الحسن‏:‏ إذا اطلع الإنسان من امرأته على فاحشة فليفارقها‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ يحرم البغايا من المؤمنات ومن أهل الكتاب‏.‏ وقال الشعبي إحصان اليهودية والنصرانية أن لا تزني، وأن تغتسل من الجنابة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ رخص في التزويج بالكتابية، لأنه كان في المسلمات قلة، فأما الآن ففيهنّ الكثرة، فزالت الحاجة إليهن‏.‏ والرخصة في تزويجهن ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة نكاح الحرائر الكتابيات، واتفق على ذلك الصحابة إلا شيئاً روي عن ابن عمر أنه سأله رجل عن ذلك فقال‏:‏ اقرأ آية التحليل يشير إلى هذه الآية، وآية التحريم يشير إلى ‏{‏ولا تنكحوا المشركات‏}‏ وقد تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏‏.‏

وتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه نايلة بنت الفرافصة الكلبية على نسائه، وتزوج طلحة بن عبد الله يهودية من الشام، وتزوج حذيفة يهودية‏.‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ يكون ثم محذوف أي‏:‏ والمحصنات اللاتي كن كتابيات فأسلمن، ويكون قد وصفهن بأنهن من الذين أوتوا الكتاب باعتبار ما كن عليه كما قال‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏من أهل الكتاب أمة قائمة‏}‏ ثم قال بعد ‏{‏يؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار، ولا يطلق على مسلم أنه من أهل الكتاب، كما لا يطلق عليه يهودي ولا نصراني‏.‏ فأما الآيتان فأطلق الاسم مقيداً بذكر الإيمان فيهما، ولا يوجد مطلقاً في القرآن بغير تقييد، إلا والمراد بهم اليهود والنصارى‏.‏ وأيضاً فإنه قال‏:‏ والمحصنات من المؤمنات، فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات، فوجب أن يحمل قوله‏:‏ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وإلاّ زالت فائدته، إذ قد اندرجن في قوله‏:‏ والمحصنات من المؤمنات‏.‏ وأيضاً فمعلوم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم‏}‏ أنه لم يرد به طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب، بل المراد اليهود والنصارى، فكذلك هذه الآية‏.‏

‏(‏فإن قيل‏)‏‏:‏ يتعلق في تحريم الكتابيات بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏ ‏(‏قيل‏)‏‏:‏ هذا في الحربية إذا خرج زوجها مسلماً، أو الحربي تخرج امرأته مسلمة‏:‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا‏}‏ ولو سلمنا العموم لكان مخصوصاً بقوله‏:‏ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، والظاهر جواز نكاح الحربية الكتابية لاندراجها في عموم‏.‏ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏.‏ وخص ابن عباس هذا العموم بالذمية، فأجاز نكاح الذمية دون الحربية، وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون‏}‏ إلى قوله

‏{‏وهم صاغرون‏}‏ ولم يفرق غيره من الصحابة من الحربيات والذميات‏.‏ وأما نصارى بني تغلب فمنع نكاح نسائهن عليّ وابراهيم وجابر بن زيد، وأجازه ابن عباس‏.‏ ‏{‏إذا آتيتموهن أجورهن‏}‏ أي مهورهن‏.‏ وانتزع العلماء من هذا أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به، ومن جوز أن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه محكم الالتزام في حكم المؤتى‏.‏ وفي ظاهر قوله‏:‏ إذا آتيتموهن أجورهن، دلالة على أنّ إماء الكتابيات لسن مندرجات في قوله‏:‏ والمحصنات، فيقوى أن يراد به الحرائر، إذ الإماء لا يعطون أجورهن، وإنما يعطي السيد‏.‏ إلا أن يجوز فنجعل إعطاء السيد إعطاء لهن‏.‏ وفيه دلالة أيضاً على أن أقل الصداق لا يتقدر، إذ سماه أجراً، والأجر في الإجارات لا يتقدر‏.‏

‏{‏محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان‏}‏ تقدم تفسيره نظيره في النساء‏.‏

‏{‏ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏ سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أنه تعالى لما أرخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن‏:‏ لولا أن الله رضي ديننا وقبل عملنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا، فنزلت‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ فيما أحصن المسلمون من نكاح نساء أهل الكتاب يقول‏:‏ ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر انتهى‏.‏ ولما ذكر فرائض وأحكاماً يلزم القيام بها، أنزل ما يقتضي الوعيد على مخالفتها ليحصل تأكيد الزجر عن تضييعها‏.‏ وقال القفال‏:‏ ما معناه، لما حصلت لهم في الدنيا فضيلة مناكحة نسائهم، وأكل ذبائحهم، من الفرق في الآخرة بأنَّ من كفر حبط عمله انتهى‏.‏ والكفر بالإيمان لا يتصور‏.‏ فقال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ أي‏:‏ ومن يكفر بالله‏.‏ وحسن هذا المجاز أنه تعالى رب الإيمان وخالقه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ومن يكفر بشهادة أن لا إله إلا الله، جعل كلمة التوحيد إيماناً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إن ناساً من المسلمين قالوا‏:‏ كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ومن يكفر بالإيمان، أي بالمنزل في القرآن، فسمي القرآن إيماناً لأنه المشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه من أحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله فهو كافر‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ من جحد ما أنزله الله من شرائع الإسلام وعرفه من الحلال والحرام‏.‏ وتبعه الزمخشري في هذا التفسير فقال‏:‏ ومن يكفر بالإيمان أي‏:‏ بشرائع الإسلام، وما أحل الله وحرم‏.‏ وقال ابن الجوزي‏:‏ سمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول‏:‏ إنما أباح الله الكتابيات لأن بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن، فحذر نكاحهن من الميل إلى دينهن بقوله‏:‏ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله‏.‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ حبط بفتح الباء وهو في الآخرة من الخاسرين حبوط عمله وخسرانه‏.‏

في الآخرة مشروط بالموافاة على الكفر‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق‏}‏ نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها حين فقدت العقد بسبب فقد الماء ومشروعية التيمم، وكان الوضوء متعذراً عندهم، وإنما جيء به للاستطراد منه إلى التيمم، وذلك في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق، وفيها كان هبوب الريح وقول عبد الله بن أبي بن سلول‏:‏ لئن رجعنا إلى المدينة وحديث الافك‏.‏ وقال علقمة بن الفغو وهو من الصحابة‏:‏ إنها نزلت رخصة للرسول لأنه كان لا يعمل عملاً إلا على وضوء، ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً على غير ذلك، فأعلمه الله أنّ الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال‏.‏

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح بالأمر بإيفاء العهود، وذكر تحليلاً وتحريماً في المطعم والمنكح واستقصى ذلك، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض، استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه سبحانه وتعالى، ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا تمكن إلا بالطهارة، بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء‏.‏ ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام، جاءت العبارة‏:‏ إذا قمتم أي‏:‏ إذا أردتم القيام إلى فعل الصلاة‏.‏ وعبر عن إرادة القيام بالقيام، إذ القيام متسبب عن الإرادة، كما عبروا عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم‏:‏ الأعمى لا يبصر أي لا يقدر على الأبصار، وقوله‏:‏ ‏{‏نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين‏}‏ أي قادرين على الإعادة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ‏}‏ أي إذا أردت قراءة القرآن لما كان الفعل متسبباً عن القدرة والإرادة أقيم المسبب مقام السبب‏.‏

وقيل‏:‏ معنى قمتم إلى الصلاة، قصدتموها، لأنّ من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له، فعبر عن القصد له بالقيام إليه‏.‏ وظاهر الآية يدل على أنّ الوضوء واجب على كل من قام إلى الصلاة متطهراً كان أو محدثاً، وقال به جماعة منهم‏:‏ داود‏.‏ وروى فعل ذلك عن عليّ وعكرمة‏.‏ وقال ابن شيرين‏:‏ كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة‏.‏ وذهب الجمهور‏:‏ إلى أنه لا بد في الآية من محذوف وتقديره‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، لأنه لا يجب الوضوء إلا على المحدث، ويدل على هذا المحذوف مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم جنباً فاطهروا‏}‏ وكأنه قيل‏:‏ إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا هذه الأعضاء، وامسحوا هذين العضوين‏.‏ وإن كنتم محدثين الحدث الأكبر فاغسلوا جميع الجسد‏.‏ وقال قوم منهم‏:‏ السدي، وزيد بن أسلم‏:‏ إذا قمتم من المضاجع يعنون النوم‏.‏ وقالوا‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير أي‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء أي الملامسة الصغرى فاغسلوا وجوهكم‏.‏

وهذا التأويل ينزه حمل كتاب الله عليه، وإنما ذكروا ذلك طلباً لأن يعم الإحداث بالذكر‏.‏

وقال قوم‏:‏ الخطاب خاص وإن كان بلفظ العموم، وهو رخصة للرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ذلك، فأمر بالسواك، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث‏.‏ وقال قوم‏:‏ الأمر بالوضوء لكل صلاة على سبيل الندب، وكان كثير من الصحابة يفعله طلباً للفضل منهم‏:‏ ابن عمر‏.‏ وقال قوم‏:‏ الوضوء عند كل صلاة كان فرضاً ونسخ‏.‏ وقيل‏:‏ فرضاً على الرسول خاصة، فنسخ عنه عام الفتح‏.‏ وقيل‏:‏ فرضاً على الأمة فنسخ عنه وعنهم‏.‏ ولا يجوز أن يكون‏:‏ فاغسلوا، أمراً للمحدثين على الوجوب وللمتطهرين على الندب، لأنّ تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية قاله الزمخشري‏.‏

فاغسلوا وجوهكم، الوجه‏:‏ ما قابل الناظر وحده، طولاً منابت الشعر فوق الجبهة مع آخر الذقن‏.‏ والظاهر أنّ اللحية ليست داخلة في غسل الوجه، لأنها ليست منه‏.‏ وكذلك الأذنان عرضاً من الأذن إلى الأذن‏.‏ ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجب الدلك، وهو مذهب مالك، والجمهور لا يوجبونه‏.‏ والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأموراً بهما في الآية في غسل الوجه، ويرون ذلك سنة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الاستنشاق شطر الوضوء‏.‏ وقال عطاء، والزهري، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وإسحاق‏:‏ من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة‏.‏ وقال أحمد‏:‏ يعيد من ترك الاستنشاق، ولا يعيد من ترك المضمضة‏:‏ والإجماع على أنه لا يلزم غسل داخل العينين، إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه‏.‏

وأيديكم إلى المرافق، اليد‏:‏ في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب، وقد غيا الغسل إليها‏.‏ واختلفوا في دخولها في الغسل، فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها، وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إلى، تفيد معنى الغاية مطلقاً، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل‏.‏ ثم ذكر مثلاً مما دخل وخرج ثم قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إلى المرافق وإلى الكعبين‏}‏ لا دليل فيه على أحد الأمرين انتهى كلامه‏.‏ وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإنّ في ذلك خلافاً‏.‏ منهم من ذهب إلى أنه داخل، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل، وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين‏:‏ وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل، فإذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر‏.‏ وأيضاً فإذا قلت‏:‏ اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد إلى هو داخل الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشتري، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء‏.‏

فإذا لم يتصوّر أن يكون داخلاً إلا بمجاز، وجب أن يحمل على أنه غير داخل، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثمّ قرينة مرجحة المجاز على الحقيقة‏.‏ فقول الزمخشري‏:‏ عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج، لا دليل فيه على أحد الأمرين، مخالف لنقل أصحابنا، إذ ذكروا أنّ النحويين على مذهبين‏:‏ أحدهما‏:‏ الدخول، والآخر‏:‏ الخروج‏.‏ وهو الذي صححوه‏.‏ وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف، ويكون من المجمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام‏.‏ وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين، فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال‏:‏ إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط بعطى أنّ الحد آخر المذكور بعدها، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل‏.‏ فالرّوايتان محفوظتان عن مالك‏.‏ روى أشهب عنه‏:‏ أنهما غير داخلتين، وروى غيره أنهما داخلتان انتهى‏.‏ وهذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني فقال‏:‏ إنْ لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم‏.‏

والظاهر أنّ الوضوء شرط في صحة الصلاة من هذه الآية، لأنه أمر بالوضوء للصلاة، فالآتي بها دونه تارك للمأمور، وتارك المأمور يستحق العقاب‏.‏ وأيضاً فقد بيّن أنه متى عدم الوضوء انتقل إلى التيمم، فدل على اشتراطه عند القدرة عليه‏.‏ والظاهر أنّ أول فروض الوضوء هو غسل الوجه، وبه قال أبو حنيفة‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ النية أولها‏.‏ وقال أحمد وإسحاق‏:‏ تجب التسمية في أول الوضوء، فإن تركها عمداً بطل وضوءه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يجب ترك الكلام على الوضوء، والجمهور على أنه يستحب‏.‏ والظاهر أنّ الواجب في هذه المأمور بها هو مرة واحدة‏.‏ والظاهر وجوب تعميم الوجه بالغسل بدأت بغسل أي موضع منه‏.‏ والظاهر وجوب غسل البياض الذي بين العذار والأذن، وبه قال‏:‏ أبو حنيفة، ومحمد، والشافعي‏.‏ وقال أبو يوسف وغيره‏:‏ لا يجب‏.‏ والظاهر أنّ ما تحت اللحية الخفيفة لا يجب غسله، وبه قال أبو حنيفة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يجب وأنّ ما استرسل من الشعر تحت الذقن لا يجب غسله‏.‏ وبه قال أبو حنيفة‏.‏ وقال مالك والمزني‏:‏ يجب‏.‏ وعن الشافعي القولان‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ وأيديكم، لا ترتيب في غسل اليدين، ولا في الرجلين، بل تقديم اليمنى على اليسرى فيهما مندوب إليه من السنة‏.‏ وقال أحمد‏:‏ هو واجب‏.‏ والظاهر أنّ التغيية بإلى تقتضي أن يكون انتهاء الغسل إلى ما بعدها، ولا يجوز الابتداء من المرفق حتى يسيل الماء إلى الكف، وبه قال بعض الفقهاء‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ لا يخل ذلك بصحة الوضوء‏.‏ والسنة أن يصبّ الماء من الكف بحيث يسيل منه إلى المرفق‏.‏

‏{‏وامسحوا برءُوسكم وأرجلكم إلى الكعبين‏}‏ هذا أمر بالمسح بالرأس، واختلفوا في مدلول باء الجرّ هنا فقيل‏:‏ إنها للإلصاق‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ المراد إلصاق المسح بالرأس، وما مسح بعضه ومستوفيه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه انتهى‏.‏ وليس كما ذكر، ليس ماسح بعضه يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه، إنما يطلق عليه أنه ملصق المسح ببعضه‏.‏ وأما أنْ يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه حقيقة فلا، إنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز، وتسمية لبعض بكل‏.‏ وقيل‏:‏ الباء للتبعيض، وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة حتى قال بعضهم، وقال من لا خبرة له بالعربية‏.‏ الباء في مثل هذا للتبعيض وليس بشيء يعرفه أهل العلم‏.‏ وقيل‏:‏ الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله ‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد‏}‏ ‏{‏وهزي إليك بجذع النخلة‏}‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم‏}‏ أي إلحاد أو جذع وأيديكم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ تقول العرب هزه وهزّ به، وخذ الخطام وبالخطام، وحز رأسه وبرأسه، ومده ومد به‏.‏ وحكى سيبويه‏:‏ خشنت صدره وبصدره، ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد، وهذا نص في المسألة‏.‏

وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس، فروي عن ابن عمر‏:‏ أنه مسح اليافوخ فقط، وعن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه، وعن ابراهيم والشعبي‏:‏ أي نواحي رأسك مسحت أجزأك، وعن الحسن‏:‏ إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها‏.‏ وأما فقهاء الأمصار فالمشهور من مذهب مالك‏:‏ وجوب التعميم‏.‏ والمشهور من مذهب الشافعي‏:‏ وجوب أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح، ومشهور أبي حنيفة والشافعي‏:‏ أن الأفضل استيعاب الجميع‏.‏ ومن غريب ما نقل عمن استدل على أنّ بعض الرأس يكفي أن قوله تعالى‏:‏ وامسحوا برؤوسكم، كقولك‏:‏ مسحت بالمنديل يدي، فكما أنه لا يدل هذا على تعميم جميع اليد بجزء من أجزاء المنديل فكذلك الآية، فتكون الرأس والرجل آلتين لمسح تلك اليد، ويكون الفرض إذ ذاك ليس مسح الرأس والأرجل، بل الفرض مسح تلك اليد بالرأس والرجل، ويكون في اليد فرضان‏:‏ أحدهما‏:‏ غسل جميعها إلى المرفق، والآخر‏:‏ مسح بللها بالرأس والأرجل‏.‏ وعلى من ذهب إلى التبعيض يلزم أن يكون التبعيض في قوله في قصة التيمم‏:‏ ‏{‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه‏}‏ أن يقتصر على مسح بعض الوجه وبعض اليد، ولا قائل به‏.‏ وعلى من جعل الباء آلة يلزم أيضاً ذلك، ويلزم أن يكون المأمور به في التيمم هو مسح الصعيد بجزء من الوجه واليد‏.‏

والظاهر أنّ الأمر بالغسل والمسح يقع الامتثال فيه بمرة واحدة، وتثليث المعسول سنة‏.‏ وقال أبو حنيفة ومالك‏:‏ ليس بسنة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ بتثليث المسح‏.‏ وروي عن أنس، وابن جبير، وعطاء مثله‏.‏ وعن ابن سيرين‏:‏ يمسح مرتين‏.‏

والظاهر من الآية‏:‏ أنه كيفما مسح أجزأه‏.‏

واختلفوا في الأفضل ابتداء بالمقدم إلى القفا، ثم إلى الوسط، ثلاثة أقوال الثابت منها في السنة الصحيحة الأول، وهو قول‏:‏ مالك، والشافعي، وأحمد، وجماعة من الصحابة والتابعين‏.‏ والثاني‏:‏ منها قول الحسن بن حي‏.‏ والثالث‏:‏ عن ابن عمر‏.‏ والظاهر أنّ رد اليدين على شعر الرأس ليس بفرض، فتحقق المسح بدون الرد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو فرض‏.‏ والظاهر أن المسح على العمامة لا يجزئ، لأنه ليس مسحاً للرأس‏.‏ وقال الأوزاعي، والثوري، وأحمد‏:‏ يجزئ، وأنّ المسح يجزئ ولو بأصبع واحدة‏.‏ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد‏:‏ لا يجزئ بأقل من ثلاث أصابع‏.‏ والظاهر أنه لو غسل رأسه لم يجزه، لأن الغسل ليس هو المأمور به وهو قول‏:‏ أبي العباس ابن القاضي من الشافعية، ويقتضيه مذهب الظاهرية‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ لا نعلم خلافاً في أنّ الغسل يجزيه من المسح إلا ما روى لنا الشاشي في الدرس عن ابن القاضي أنه لا يجزئه‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر، وهي قراءة أنس، وعكرمة، والشعبي، والباقر، وقتادة، وعلقمة، والضحاك‏:‏ وأرجلِكم بالخفض‏.‏ والظاهر من هذه القراءة اندراج الأرجل في المسح مع الرأس‏.‏ وروى وجوب مسح الرجلين عن‏:‏ ابن عباس، وأنس، وعكرمة، والشعبي، وأبي جعفر الباقر، وهو مذهب الإمامية من الشيعة‏.‏ وقال جمهور الفقهاء‏:‏ فرضهما الغسل‏.‏ وقال داود‏:‏ يجب الجمع بين المسح والغسل، وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية‏.‏ وقال الحسن البصري، وابن جرير الطبري‏:‏ يخير بين المسح والغسل ومن أوجب الغسل تأول أنّ الجر هو خفض على الجواز، وهو تأويل ضعيف جداً، ولم يرد إلا في النعت، حيث لا يلبس على خلاف فيه قد قرر في علم العربية، أو تأول على أنّ الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء أي‏:‏ وافعلوا بأرجلكم الغسل، وحذف الفعل وحرف الجرّ، وهذا تأويل في غاية الضعف‏.‏ أو تأول على أنّ الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة مظنة الإسراف المذموم المنهى عنه، فعطف على الرابع الممسوح لا ليمسح، ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الكعبين، فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة، لأنّ المسح لم يضرب له غاية انتهى هذا التأويل‏.‏ وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في الأحكام‏.‏ وروي عن أبي زيد‏:‏ أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحاً ويقولون‏:‏ تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي‏.‏

وقرأ نافع، والكسائي، وابن عامر، وحفص‏:‏ وأرجلكم بالنصب‏.‏ واختلفوا في تخريج هذه القراءة، فقيل‏:‏ هو معطوف على قوله‏:‏ وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وفيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض، بل هي منشئة حكماً‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ هذا جائز بلا خلاف‏.‏ وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور‏:‏ وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، قال‏:‏ وأقبح ما يكون ذلك بالجمل، فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب الله عن هذا التخريج‏.‏

وهذا تخريج من يرى أنّ فرض الرجلين هو الغسل، وأما مَن يرى المسح فيجعله معطوفاً على موضع برؤوسكم، ويجعل قراءة النصب كقراءة الجرِّ دالة على المسح‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ وأرجلكم بالرفع، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي‏:‏ اغسلوها إلى الكعبين على تأويل من يغسل، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح‏.‏ وتقدم مدلول الكعب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قول الجمهور هما حدّ الوضوء بإجماع فيما علمت، ولا أعلم أحداً جعل حدّ الوضوء إلى العظم الذي في وجه القدم‏.‏ وقال غيره‏:‏ قالت الإمامية‏:‏ وكل من ذهب إلى وجوب مسح الكعب هو الذي في وجه القدم، فيكون المسح مغياً به‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ روى أشهب عن مالك‏:‏ الكعبان هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب، وليس الكعب بالظاهر الذي في وجه القدم، ويظهر ذلك من الآية في قوله‏:‏ في الأيدي إلى المرافق، إذ في كل يد مرفق‏.‏ ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب، فلما كان في كل رجل كعبان خصتا بالذكر انتهى‏.‏ ولا دليل في قوله في الآية على أن موالاة أفعال الوضوء ليست بشرط في صحته لقبول الآية التقسيم في قولك‏:‏ متوالياً وغير متوال، وهو مشهور مذهب أبي حنيفة ومالك، وروي عن مالك والشافعي في القديم‏:‏ أنها شرط‏.‏ وعلى أن الترتيب في الأفعال ليس بشرط لعطفها بالواو وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، ومذهب الشافعي أنه شرط واستيفاء حجج‏.‏ هذه المسائل مذكورة في الفقه، ولم تتعرّض الآية للنص على الأذنين‏.‏ فمذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري، والأوزاعي، ومالك فيما روى عنه أشهب وابن القاسم‏:‏ أنهما من الرأس فيمسحان‏.‏ وقال الزهري‏:‏ هما من الوجه فيغسلان معه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ من الوجه هما عضو قائم بنفسه، ليسا من الوجه ولا من الرأس، ويمسحان بماء جديد‏.‏ وقيل‏:‏ ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر من الرأس، وعلى هذه الأقوال تبنى فرضية المسح أو الغسل وسنية ذلك‏.‏

‏{‏وإن كنتم جنباً فاطهروا‏}‏ لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى، وتقدم مدلول الجنب في ‏{‏ولا جنباً إلا عابري سبيل‏}‏ والظاهر أنّ الجنب مأمور بالاغتسال‏.‏ وقال عمر، وابن مسعود‏:‏ لا يتيمم الجنب البتة، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء، والجمهور على خلاف ذلك، وأنه يتيمم، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور‏.‏ والظاهر أنّ الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله‏:‏ ‏{‏فلم تجدوا ماء‏}‏ أي للوضوء والغسل فتيمموا صعيداً طيباً فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد، وهو قول الجمهور‏.‏ وذهب الأوزاعي والأصم‏:‏ إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة‏.‏ والظاهر أنّ الجنب لا يجب عليه غير التطهير من غير وضوء‏.‏

ولا ترتيب في الأعضاء المغسولة، ولا دلك، ولا مضمضة، ولا استنشاق، بل الواجب تعميم جسده بوصول الماء إليه‏.‏ وقال داود وأبو ثور‏:‏ يجب تقديم الوضوء على الغسل‏.‏ وقال إسحاق‏:‏ تجب البداءة بأعلى البدن‏.‏ وقال مالك‏:‏ يجب الدلك، وروى عنه محمد بن مروان الظاهري‏:‏ أنه يجزئه الانغماس في الماء دون تدلك‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ وزفر، وأبو يوسف، ومحمد، والليث، وأحمد‏:‏ تجب المضمضة والاستنشاق فيه، وزاد أحمد الوضوء‏.‏ وقال النخعي‏:‏ إذا كان شعره مفتولاً جدّاً يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس لا يجب نقضه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ فاطّهروا بتشديد الطاء والهاء المفتوحتين، وأصله‏:‏ تطهروا، فأدغم التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل‏.‏ وقرئ‏:‏ فاطْهروا بسكون الطاء، والهاء مكسورة من أطهر رباعياً، أي‏:‏ فأطهروا أبدانكم، والهمزة فيه للتعدية‏.‏

‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه‏}‏ تقدّم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء، إلا أنّ في هذه الجملة زيادة منه وهي مرادة في تلك التي في النساء‏.‏ وفي لفظه‏:‏ منه دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين، فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليد كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه، وهذا مذهب الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة، ومالك‏:‏ إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه‏.‏ وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد، والأمر بالمسح، أنه لو يممه غيره، أو وقف في مهب ريح فسفت على وجهه ويديه وأمرّ يده عليه، أو لم يمر، أو ضرب ثوباً فارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه، أنّ ذلك لا يجزئه‏.‏ وفي كل من المسائل الثلاث خلاف‏.‏

‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏}‏ أي من تضييق، بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء‏.‏ والإرادة صفة ذات، وجاءت بلفظ المضارع مراعاة للحوادث التي تظهر عنها، فإنها تجيء مؤتنقة من نفي الحرج، ووجود التطهير، وإتمام النعمة‏.‏ وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله‏:‏ ‏{‏يريد الله ليبين لكم‏}‏ فأغنى عن إعادته‏.‏ ومن زعم أنّ مفعول يريد محذوف تتعلق به اللام، جعل زيادة في الواجب للنفي الذي في صدر الكلام، وإن لم يكن النفي واقعاً على فعل الحرج، ويجري مجرى هذه الجملة ما جاء في الحديث ‏"‏ دين الله يسر، وبعثت بالحنيفية السمحة ‏"‏» وجاء لفظ الدين بالعموم، والمقصود به الذي ذكر بقرب وهو التيمم‏.‏

‏{‏ولكن يريد ليطهركم‏}‏ أي بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ‏"‏‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ المقصود بهذا التطهير إزالة النجاسة الحكمية الناشئة عن خروج الحدث‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ليطهركم من أدناس الخطايا بالوضوء والتيمم، كما جاء في مسلم‏:‏

«إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء»‏.‏ إلى آخر الحديث‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ليطهركم عن التمرّد عن الطاعة‏.‏ وقرأ ابن المسيب‏:‏ ليطهرْكم بإسكان الطاء وتخفيف الهاء‏.‏

‏{‏وليتم نعمته عليكم‏}‏ أي وليتم برخصة العامة عليكم بعزائمه‏.‏ وقيل‏:‏ الكلام متعلق بما دل عليه أوّل السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، ثم قال بعد كيفية الوضوء‏:‏ ويتم نعمته عليكم، أي النعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين‏.‏ وقيل‏:‏ تبيين الشرائع وأحكامها، فيكون مؤكداً لقوله‏:‏ ‏{‏وأتممت عليكم نعمتي‏}‏ وقيل‏:‏ بغفران ذنوبهم‏.‏ وفي الخبر‏:‏ «تمام النعمة بدخول الجنة والنجاة من النار»‏.‏ ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏ أي تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا‏}‏ الخطاب للمؤمنين، والنعمة هنا الإسلام، وما صاروا إليه من اجتماع الكلمة والعزة‏.‏ والميثاق‏:‏ هو ما أخذه الرسول عليهم في بيعة العقبة وبيعة الرضوان، وكل موطن قاله‏:‏ ابن عباس، والسدي، وجماعة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو ما أخذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم‏.‏ وقيل‏:‏ هو الميثاق المأخوذ عليهم حين بايعهم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر، والمنشط والمكره‏.‏ وقيل‏:‏ الميثاق هو الدلائل التي نصبها لأعينهم وركبها في عقولهم، والمعجزات التي أظهرها في أيامهم حتى سمعوا وأطاعوا‏.‏ وقيل‏:‏ الميثاق إقرار كل مؤمن بما ائتمر به‏.‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ أنه الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل حين قالوا‏:‏ آمنا بالتوراة وبكل ما فيها، ومن جملته البشارة بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلزمهم الإقرار به‏.‏ ولا يتأتى هذا القول إلا أن يكون الخطاب لليهود، وفيه بعد‏.‏ والقولان بعده يكون الميثاق فيهما مجاز، والأجود حمله على ميثاق البيعة، إذ هو حقيقة فيه، وفي قوله‏:‏ إذا قلتم سمعنا وأطعنا‏.‏

‏{‏واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور‏}‏ أي‏:‏ واتقوا الله ولا تتناسوا نعمته، ولا تنقضوا ميثاقه‏.‏ وتقدم شرح شبه هذه الجملة في النساء فأغنى عن إعادته‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا‏}‏ تقدم تفسير مثل هذه الجملة الأولى في النساء، إلا أنّ هناك بدئ بالقسط، وهنا أخر‏.‏ وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة‏.‏ ويلزم مَن كان قائماً لله أن يكون شاهداً بالقسط، ومن كان قائماً بالقسط أن يكون قائماً لله، إلا أنَّ التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين، فبدئ فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والإحن، فبدئ فيها بالقيام لله تعالى أولاً لأنه أردع للمؤمنين، ثم أردف بالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدئ فيه بما هو آكد وهو القسط، وفي معرض العداوة والشنآن بدئ فيها بالقيام لله، فناسب كل معرض بما جيء به إليه‏.‏ وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصالحا‏}‏ فناسب ذكر تقديم القسط، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط، وتعدية يجرمنكم بعلى إلا أن يضمن معنى ما يتعدى بها، وهو خلاف الأصل‏.‏

‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ أي‏:‏ العدل نهاهم أولاً أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانياً تأكيداً، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله‏:‏ هو أقرب للتقوى، أي‏:‏ أدخل في مناسبتها، أو أقرب لكونه لطفاً فيها‏.‏

وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين في العدل، إذ كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين‏.‏

‏{‏واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون‏}‏ لما كان الشنآن محله القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى، وأتى بصفة خبير ومعناها عليم، ولكنها تختص بما لطف إدراكه، فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية‏.‏

‏{‏وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم‏}‏ لما ذكر تعالى أوامر ونواهي ذكر وعده من اتبع أوامره واجتنب نواهيه، ووعد تتعدى لأنين، والثاني محذوف تقديره‏:‏ الجنة، وقد صرح بها في غير هذا الموضع‏.‏ والجملة من قوله‏:‏ لهم مغفرة، مفسرة لذلك المحذوف تفسير السبب للمسبب، لأن الجنة مترتبة على الغفران وحصول الأجر‏.‏ وإذا كانت الجملة مفسرة فلا موضع لها من الإعراب، والكلام قبلها تامْ وجعل الزمخشري قوله‏:‏ لهم مغفرة وأجر عظيم، بياناً للوعد قال‏:‏ كأنه قال‏:‏ قدم لهم وعداً فقيل‏:‏ أي شيء وعده‏؟‏ فقال لهم‏:‏ مغفرة وأجر عظيم‏.‏ أو يكون على إرادة القول وعدهم وقال لهم‏:‏ مغفرة، أو على إجراء وعد مجرى قال‏:‏ لأنه ضرب من القول، أو يجعل وعد واقعاً على الجملة التي هي مغفرة، كما رفع تركنا على قوله‏:‏ ‏{‏سلام على نوح في العالمين‏}‏ كأنه قيل‏:‏ وعدهم هذا القول، وإذا وعدهم مَن لا يخلف الميعاد فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم، وهذا القول يتلقونه عند الموت ويوم القيامة، فيسرون ويستريحون إليه، وتهون عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى التراب انتهى‏.‏ وهي تقادير محتملة، والأول أوجهها‏.‏ ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ لما ذكر ما لمن آمن، ذكر ما لمن كفر‏.‏ وفي المؤمنين جاءت الجملة فعلية متضمنة الوعد بالماضي الذي هو دليل على الوقوع، فأنفسهم متشوقة لما وعدوا به، متشوفة إلفيه مبتهجة طول الحياة بهذا الوعد الصادق‏.‏ وفي الكافرين جاءت الجملة إسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم، وأنهم أصحاب النار، فهم دائمون في عذابٍ، إذْ حتم لهم أنهم أصحاب الجحيم، ولم يأت بصورة الوعيد، فكان يكون الرجاء لهم في ذلك‏.‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ روى أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أنها نزلت من أجل كفار قريش، وقد تقدم ذكرهم في قوله‏:‏ ‏{‏لا يجرمنكم شنآن قوم‏}‏ وبه قال مقاتل، وقال الحسن‏:‏ بعثت قريش رجلاً ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فأطلعه الله على ذلك‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ إنه عليه السلام ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في دية فهموا بقتله‏.‏ وقال جماعة من المفسرين‏:‏ أتى بني قريظة ومعه أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ حسبهما مشركين، فقالوا‏:‏ نعم يا أبا القاسم اجلسْ حتى نطعمك ونقرضك، فأجلسوه في صفة وهموا بالقتل به، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه، فأمسك الله يده، ونزل جبريل عليه السلام فأخبره فخرج‏.‏

وقيل‏:‏ نزل منزلاً في غزوة ذات الرقاع بني محارب بن حفصة بن قيس بن غيلان، وتفرق الناس في العضاة يستظلون بها، فعلق الرسول سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي فسلّ سيف الرسول صلى الله عليه وسلم واسمه غورث، وقيل‏:‏ دعثور بن الحرث، ثم أقبل عليه فقال‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ قال‏:‏»الله قالها ثلاثاً«وقال‏:‏ أتخافني‏؟‏ قال‏:‏ لا، فشام السيف وحبس‏.‏ وفي البخاري‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه‏.‏ قيل‏:‏ أسلم‏.‏ وقيل‏:‏ ضرب برأسه ساق الشجرة حتى مات‏.‏ وروي أن المشركين رأوا المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معاً بعسفان في غزوة ذي انمار، فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا‏:‏ إن لهم صلاة بعدها هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، وهي صلاة العصر، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها، فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف‏.‏ وقد طوّلوا بذكر أسباب أخر‏.‏ وملخص ما ذكروه أنّ قريشاً، أو بني النضير، أو قريظة، أو غورثا، هموا بالقتل بالرسول، أو المشركين هموا بالقتل بالمسلمين، أو نزلت في معنى ‏{‏اليوم يئس الذين كفروا من دينكم‏}‏ قاله الزجاج، أو عقيب الخندق حين هزم الله الأحزاب ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏}‏ والذي تقتضيه الآية أنّ الله تعالى ذكر المؤمنين بنعمه إذ أراد قوم من الكفار لم يعينهم الله بل أبهمهم أن ينالوا المسلمين بشر، فمنعهم الله، ثم أمرهم بالتقوى والتوكل عليه‏.‏ ويقال‏:‏ بسط إليه لسانه أي شتمه، وبسط إليه يده مدها ليبطش به‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء‏}‏ ويقال‏:‏ فلان بسيط الباع، ومد يد الباع، بمعنى‏.‏ وكف الأيدي منعها وحبسها‏.‏ وجاء الأمر بالتقوى أمر مواجهة مناسباً لقوله اذكروا‏.‏ وجاء الأمر بالتوكل أمر غائب لأجل الفاصلة، وإشعاراً بالغلبة، وإفادة لعموم وصف الإيمان، أي‏:‏ لأجل تصديقه بالله ورسوله يؤمر بالتوكل كل مؤمن، ولابتداء الآية بمؤمنين على جهة الاختصاص وختمها بمؤمنين على جهة التقريب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 26‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏12‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏13‏)‏ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏14‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏16‏)‏ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏19‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏20‏)‏ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

نقب في الجبل والحائط فتح فيه ما كان منسدّاً، والتنقيب التفتيش، ومنه ‏{‏فنقبوا في البلاد‏}‏ ونقب على القوم ينقب إذا صار نقيباً، أي يفتش عن أحوالهم وأسرارهم، وهي النقابة‏.‏ والنقاب الرجل العظيم، والنقب الجرب واحده النقبة، ويجمع أيضاً على نقب على وزن ظلم، وهو القياس‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

متبذلاً تبدو محاسنه *** يضع الهناء مواضع النقب

أي الجرب‏.‏ والنقبة سراويل بلا رجلين، والمناقب الفضائل التي تظهر بالتنقيب‏.‏ وفلانة حسنة النقبة النقاب أي جميلة، والظاهر أنّ النقيب فعيل للمبالغة كعليم، وقال أبو مسلم‏:‏ بمعنى مفعول، يعني أنهم اختاروه على علم منهم‏.‏ وقال الأصم‏:‏ هو المنظور إليه المسند إليه الأمر والتدبير، عزر الرجل قال يونس بن حبيب‏:‏ أثنى عليه بخير‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ عظمة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ رده عن الظلم‏:‏ ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبيح‏.‏ قال القطامي‏:‏

ألا بكرت ميّ بغير سفاهة *** تعاتب والمودود ينفعه العزر

أي المنع‏.‏ وقال آخر في معنى التعظيم‏:‏

وكم من ماجد لهم كريم *** ومن ليث يعزّر في النديّ

وعلى هذه النقول يكون من باب المشترك‏.‏ وجعله الزمخشري من باب المتواطئ قال‏:‏ عزرتموه نصرتموه ومنعتموه من أيدي العدوّ، ومنه التعزير وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد، وهو قول الزجاج، قال‏:‏ التعزير الرّدع، عزرت فلاناً فعلت به ما يردعه عن القبيح، مثل نكلت به‏.‏ فعلى هذا يكون تأويل عزرتموهم رددتم عنهم أعداءهم انتهى‏.‏ ولا يصح إلا إن كان الأصل في عزرتموهم أي عزرتم بهم‏.‏

طلع الشيء برز وظهر، واطلع افتعل منه‏.‏ غرا بالشيء غراء، وغر ألصق به وهو الغرى الذي يلصق به‏.‏ وأغرى فلان زيداً بعمرو ولعه به، وأغريت الكلب بالصيد أشليته‏.‏ وقال النضر‏:‏ أغرى بينهم هيج‏.‏ وقال مورج‏:‏ حرش بعضهم على بعض‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ألصق بهم‏.‏ الصنع‏:‏ العمل‏.‏ الفترة‏:‏ هي الانقطاع، فتر الوحي أي انقطع‏.‏ والفترة السكون بعد الحركة في الإجرام، ويستعار للمعاني‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وإني لتعروني لذكراك فترة *** والهاء فيه ليست للمرة الواحدة، بل فترة مرادف للفتور‏.‏ ويقال‏:‏ طرف فاتر إذا كان ساجياً‏.‏ الجبار‏:‏ فعال من الجبر، كأنه لقوته وبطشه يجبر الناس على ما يختارونه‏.‏ والجبارة النخلة العالية التي لا تنال بيد، واسم الجنس جبار‏.‏ قال الشاعر‏:‏

سوابق جبار أثيث فروعه *** وعالين قنوانا من البسر أحمرا

التيه في اللغة‏:‏ الحيرة، يقال منه‏:‏ تاه، يتيه، ويتوه، وتوهته، والتاء أكثر، والأرض التوهاء التي لا يهتدى فيها، وأرض تيه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ التيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصود‏.‏ الأسى‏:‏ الحزن، يقال منه‏:‏ أسى يأسى‏.‏ ‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً‏}‏ مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أمر بذكر الميثاق الذي أخذه الله على المؤمنين في قوله‏:‏

‏{‏وميثاقه الذي واثقكم به‏}‏ ثم ذكر وعده إياهم، ثم أمرهم بذكر نعمته عليه إذ كف أيدي الكفار عنهم، ذكرهم بقصة بني إسرائيل في أخذ الميثاق عليهم، ووعده لهم بتكفير السيآت، وإدخالهم الجنة، فنقضوا الميثاق وهموا بقتل الرسول، وحذرهم بهذه القصة أن يسلكوا سبيل بني إسرائيل هو بالإيمان والتوحيد‏.‏ وبعث النقباء قيل‏:‏ هم الملوك بعثوا فيهم يقيمون العدل، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر‏.‏ والنقيب‏:‏ كبير القوم القائم بأمورهم‏.‏ والمعنى في الآية‏:‏ أنه عدد عليهم نعمه في أنْ بعث لأعدائهم هذا العدد من الملوك قاله النقاش‏.‏ وقال‏:‏ ما وفى منهم إلا خمسة‏:‏ داود‏.‏ وسليمان ابنه، وطالوت، وحزقيل، وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء، وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جباراً كلهم يأخذ الملك بالسيف، ويعبث فيهم، والبعث‏:‏ من بعث الجيوش‏.‏ وقيل‏:‏ هو من بعث الرسل وهو إرسالهم والنقباء الرسل جعلهم الله رسلاً إلى قومهم كل نبي منهم إلى سبط‏.‏

وقيل‏:‏ الميثاق هنا والنقباء هو ما جرى لموسى مع قومه في جهاد الجبارين، وذلك أنه لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام، وكان يسكنها الكفار الكنعانيون الجبابرة وقال لهم‏:‏ إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها، وجاهدوا من فيها، وإني ناصركم‏.‏ وأمر موسى أنْ يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم، فاختار النقباء، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل، وتكفل لهم به النقباء، وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراماً عظاماً وقوة وشوكة، فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم، وقد نهاهم موسى أن يحدثوهم، فنكثوا الميثاق، إلا كالب بن يوقنا من سبط يهودا، ويوشع بن نون من سبط أفراثيم بن يوسف وكانا من النقباء‏.‏ وذكر محمد بن حبيب في المحبر أسماء هؤلاء النقباء الذين اختارهم موسى في هذه القصة بألفاظ لا تنضبط حروفها ولا شكلها، وذكرها غيره مخالفة في أكثرها لما ذكره ابن حبيب لا ينضبط أيضاً‏.‏ وذكروا من خلق هؤلاء الجبارين وعظم أجسامهم وكبر قوالبهم ما لا يثبت بوجه، قالوا وعدد هؤلاء النقباء كان بعدد النقباء الذين اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين رجلاً والمرأتين الذين بايعوه في العقبة الثانية، وسماهم‏:‏ النقباء‏.‏

‏{‏وقال الله إني معكم‏}‏ أي بالنصر والحياطة‏.‏ وفي هذه المعية دلالة على عظم الاعتناء والنصرة، وتحليل ما شرطه عليهم مما يأتي بعد، وضمير الخطاب هو لبني إسرائيل جميعاً‏.‏ وقال الربيع‏:‏ هو خطاب للنقباء، والأول هو الراجح لانسحاب الأحكام التي بعد هذه الجملة على جميع بني إسرائيل‏.‏

‏{‏لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئآتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ اللام في لئن أقمتم هي المؤذنة بالقسم والموطئة بما بعدها، وبعد أداة الشرط أن يكون جواباً للقسم، ويحتمل أن يكون القسم محذوفاً، ويحتمل أن يكون لأكفرن جواباً لقوله‏:‏ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، ويكون قوله‏:‏ وبعثنا والجملة التي بعده في موضع الحال، أو يكونان جملتي اعتراض، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وهذا الجواب يعني لأكفرنّ، ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً انتهى‏.‏ وليس كما ذكر لا يسدّ لأكفرن مسدَّهما، بل هو جواب القسم فقط، وجواب الشرط محذوف كما ذكرنا‏.‏ والزكاة هنا مفروض من المال كان عليهم، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون المعنى‏:‏ وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه قاله‏:‏ ابن عطية‏.‏ والأول وهو الراجح‏.‏

وآمنتم برسلي، الإيمان بالرسل هو التصديق بجميع ما جاؤا به عن الله تعالى‏.‏ وقدّم الصلاة والزكاة على الإيمان تشريفاً لهما، وقد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بالإيمان قاله‏:‏ ابن عطية‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ كان اليهود مقرين بحصول الإيمان مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكانوا مكذبين بعض الرسل، فذكر بعدهما الإيمان بجميع الرسل، وأنه لا تحصل نجاة إلا بالإيمان بجميعهم انتهى ملخصاً‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ برسلي بسكون السين في جميع القرآن، وعزرتموهم‏.‏ وقرأ عاصم الجحدري‏:‏ وعزرتموهم خفيفة الزاي‏.‏ وقرأ في الفتح‏:‏ ‏{‏وتعزروه‏}‏ فتح التاء وسكون العين وضم الزاي، ومصدره العزر‏.‏ وأقرضتم الله قرضاً حسناً‏:‏ إيتاء الزكاة هو في الواجب، وهذا القرض هو في المندوب‏.‏ ونبه على الصدقات المندوبة بذكرها فيما يترتب على المجموع تشريفاً وتعظيماً لموقعها من النفع المتعدي‏.‏ قال الفراء‏:‏ ولو جاء إقراضاً لكان صواباً، أقيم الاسم هنا مقام المصدر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً‏}‏ لم يقل بتقبيل ولا إنباتاً انتهى‏.‏ وقد فسر هذا الإقراض بالنفقة في سبيل الله، وبالنفقة على الأهل، وبالزكاة‏.‏ وفيه بعد، لأنه تكرار‏.‏ ووصفه بحسن إما لأنه لا يتبع بمن ولا أذى، وأما لأنه عن طيب نفس‏.‏ لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات‏:‏ رتب على هذه الخمسة المشروطة تكفير السيآت، وذلك إشارة إلى إزالة العقاب، وإدخال الجنات، وذلك إشارة إلى إيصال الثواب‏.‏

‏{‏فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل‏}‏ أي بعد ذلك الميثاق المأخوذ والشرط المؤكد فقد أخطأ الطريق المستقيم‏.‏ وسواء السبيل وسطه وقصده المؤدي إلى القصد، وهو الذي شرعه الله‏.‏ وتخصيص الكفر بتعدية أخذ الميثاق وإن كان قبله ضلالاً عن الطريق المستقيم، لأنه بعد الشرط المؤكد بالوعد الصادق الأمين العظيم أفحش وأعظم، إذ يوجب أخذ الميثاق الإيفاء به، لا سيما بعد هذا الوعيد عظم الكفر هو بعظم النعمة المكفورة‏.‏

‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ تقدم الكلام على مثل هذه الجملة‏.‏

‏{‏لعناهم‏}‏ أي طردناهم وأبعدناهم من الرحمة قاله‏:‏ عطاء والزجاج‏.‏

أو عذبناهم بالمسح قردة وخنازير كما قال‏:‏ ‏{‏أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت‏}‏ أي نمسخهم كما مسخناهم قاله‏:‏ الحسن، ومقاتل‏.‏ أو عذبناهم بأخذ الجزية قاله‏:‏ ابن عباس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نقضوا الميثاق بتكذيب الرسل الذين جاءوا بعد موسى وقتلهم الأنبياء بغير حق وتضييع الفرائض‏.‏

‏{‏وجعلنا قلوبهم قاسية‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ جافية جافة‏.‏ وقيل‏:‏ غليظة لا تلين‏.‏ وقيل‏:‏ منكرة لا تقبل الوعظ، وكل هذا متقارب‏.‏ وقسوة القلب غلظه وصلابته حتى لا ينفعل لخير‏.‏ وقرأ الجمهور من السبعة‏:‏ قاسية اسم فاعل من قسا يقسو‏.‏ وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي‏:‏ قسية بغير ألف وبتشديد الياء، وهي فعيل للمبالغة كشاهد وشهيد‏.‏ وقال قوم‏:‏ هذه القراءة ليست من معنى القسوة، وإنما هي كالقسية من الدراهم، وهي التي خالطها غش وتدليس، وكذلك القلوب لم يصل الإيمان بل خالطها الكفر والفساد‏.‏ قال أبو زبيد الطائي‏:‏

لهم صواهل في صم السلاح كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف

وقال آخر‏:‏

فما زادوني غير سحق عمامة *** وخمس ميء فيها قسي وزائف

قال الفارسي‏:‏ هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب‏.‏ وقال الزمخشري وقرأ عبد الله قسية أي رديئة مغشوشة من قولهم‏:‏ درهم قسي، وهو من القسوة، لأن الذهب والفضة الخالصتين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وصلابة‏.‏ والقاسي والقاسح بالحاء إخوان في الدلالة على اليبس والصلابة انتهى‏.‏ وقال المبرد‏:‏ سمى الدرهم الزائف قسيًّا لشدته بالغش الذي فيه، وهو يرجع إلى المعنى الأول، والقاسي والقاسح بمعنى واحد انتهى‏.‏ وقول المبرد‏:‏ مخالف لقول الفارسي، لأن المعهود جعله عربياً من القسوة، والفارسي جعله معرباً دخيلاً في كلام العرب وليس من ألفاظها‏.‏

وقرأ الهيصم بن شراح‏:‏ قسية بضم القاف وتشديد الياء، كحيى‏.‏ وقرئ بكسر القاف اتباعاً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم، أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست انتهى‏.‏ وهو على مذهبه الاعتزالي‏.‏ وأما أهل السنة فيقولون‏:‏ إن الله خلق القسوة في قلوبهم‏.‏

‏{‏يحرفون الكلم عن مواضعه‏}‏ أي يغيرون ما شق عليهم من أحكامها، كآية الرجم بدلوها لرؤسائهم بالتحميم وهو تسويد الوجه بالفحم قال معناه ابن عباس وغيره، وقالوا‏:‏ التحريف بالتأويل لا بتغيير الألفاظ، ولا قدرة لهم على تغييرها ولا يمكن‏.‏ ألا تراهم وضعوا أيديهم على آية الرجم‏؟‏ وقال مقاتل‏:‏ تحريفهم الكلم هو تغييرهم صفة الرسول أزالوها وكتبوا مكانها صفة أخرى فغيروا المعنى والألفاظ، والصحيح أن تحريف الكلم عن مواضعه هو التغيير في اللفظ والمعنى، ومن اطلع على التوراة علم ذلك حقيقة، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى‏.‏ وهذه الجملة وما بعدها جاءت بياناً لقسوة قلوبهم، ولا قسوة أشد من الافتراء على الله تعالى وتغيير وحيه‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي الكلام بالألف‏.‏ وقرأ أبو رجاء‏:‏ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ الكلم بفتح الكاف‏.‏

‏{‏ونسوا حظاً مما ذكروا به‏}‏ وهذا أيضاً من قسوة قلوبهم وسوء فعلهم بأنفسهم، حيث ذكروا بشيء فنسوه وتركوه، وهذا الحظ من الميثاق المأخوذ عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ لما غيروا ما غيّروا من التوراة استمروا على تلاوة ما غيروه، فنسوا حظاً مما في التوراة قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ أنساهم نصيباً من الكتاب بسبب معاصيهم، وعن ابن مسعود‏:‏ قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية، وتلا هذه الآية‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأومأ لي إلى ترك المعاصي

وقيل‏:‏ تركوا نصيبهم مما أمروا به من الإيمان بالرسول وبيان نعته‏.‏

‏{‏ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم‏}‏ أي هذه عادتهم وديدنهم معك، وهم على مكان أسلافهم من خيانة الرسل وقتلهم الأنبياء‏.‏ فهم لا يزالون يخوفونك وينكثون عهودك، ويظاهرون عليك أعداءك، ويهمون بالقتل بك، وأن يسموك‏.‏ ويحتمل أن يكون الخائنة مصدراً كالعافية، ويدل على ذلك قراءة الأعمش على خيانة، أو اسم فاعل، والهاء للمبالغة كراوية أي خائن، أو صفة لمؤنث أي قرية خائنة، أو فعلة خائنة، أو نفس خائنة‏.‏ والظاهر في الاستثناء أنه من الأشخاص في هذه الجملة، والمستثنون عبد الله بن سلام وأصحابه قاله‏:‏ ابن عباس‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون في الأفعال أي‏:‏ إلا فعلاً قليلاً منهم، فلا تطلع فيه على خيانة‏.‏ وقيل‏:‏ الاستثناء من قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا قلوبهم قاسية‏}‏ والمراد به المؤمنون، فإنّ القسوة زالت عن قلوبهم، وهذا فيه بعد‏.‏

‏{‏فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين‏}‏ ظاهره الأمر بالمعروف والصفح عنهم جميعهم، وذلك بعث على حسن التخلق معهم ومكارم الأخلاق‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ يجوز أن يعفو عنهم في غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حرباً، ولم يمتنعوا من أداء جزية‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على من آمن منهم، فلا تؤاخذهم بما سلف منهم، فيكون عائداً على المستثنين‏.‏ وقيل‏:‏ هذا الأمر منسوخ بآية السيف‏.‏ وقيل‏:‏ بقوله‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله‏}‏ وقيل‏:‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة‏}‏ وفسر قوله‏:‏ يحب المحسنين، بالعافين عن الناس، وبالذين أحسنوا عملهم بالإيمان، وبالمستثنين وهم الذين ما نقضوا العهد والذين آمنوا وبالنبي عليه السلام لأنه المأمور في الآية بالصفح والعفو‏.‏

‏{‏ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم‏}‏‏.‏ الظاهر أنّ من تتعلق بقوله‏:‏ أخذنا وأنَّ الضمير في ميثاقهم عائد على الموصول، وأنّ الجملة معطوفة على قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل‏}‏ والمعنى‏:‏ أنه تعالى أخذ من النصارى ميثاق أنفسهم وهو الإيمان بالله والرسل وبأفعال الخير‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ميثاقهم عائد على بني إسرائيل، ويكون مصدراً شبيهاً أي‏:‏ وأخذنا من النصارى ميثاقاً مثل ميثاق بني إسرائيل‏.‏ وقيل‏:‏ ومن الذين معطوف على قوله‏:‏ منهم، من قوله‏:‏ ‏{‏ولا تزال تطلع على خائنة‏}‏ منهم أي من اليهود، ومن الذين قالوا إنا نصارى‏.‏

ويكون قوله‏:‏ أخذنا ميثاقهم مستأنفاً، وهذا فيه بعد للفصل، ولتهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه دون ضرورة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أخذ على النصارى الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فتركوا ما أمروا به‏.‏ وقال غيره‏:‏ أخذ الميثاق عليهم بالعمل بالتوراة، وبكتب الله المنزلة وأنبيائه ورسله‏.‏ وفي قوله‏:‏ قالوا إنا نصارى، توبيخ لهم وزجر عما ادعوه من أنهم ناصر ودين الله وأنبيائه، إذ جعل ذلك منهم مجرد دعوى لا حقيقة‏.‏ وحيث جاء النصارى من غير نسبة إلى أنهم قالوا عن أنفسهم ذلك، فإنما هو من باب العلم لم يلحظ فيه المعنى الأول الذي قصدوه من النصر، كما صار اليهود علماً لم يحلظ فيه معنى قوله هُدنا إليك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ فهلا قيل‏:‏ ومن النصارى‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ لأنهم إنما سموا بذلك أنفسهم ادعاء لنصرة الله، وهم الذين قالوا لعيسى‏:‏ نحن أنصار الله ثم اختلفوا بعد إلى نسطورية ويعقوبية وملكانية انتهى‏.‏ وقد تقدم في أوائل البقرة أنه قيل‏:‏ سموا نصارى لأنهم من قرية بالشام تسمى ناصرة، وقوله‏:‏ وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله القائل لذلك هم الحواريون، وهم عند الزمخشري كفار، وقد أوضح ذلك على زعمه في آخر هذه السورة، وعند غيرهم مؤمنون، ولم يختلفوا هم، إنما اختلف من جاء بعدهم ممن يدعي تبعيتهم‏.‏

‏{‏فنسوا حظاً مما ذكروا به‏}‏ قال أبو عبد الله الرازي‏:‏ في مكتوب الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والحظ هو الإيمان به، وتنكيراً لحظ يدل على أن المراد به حظ واحد وهو الإيمان بالرسول، وخص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا أكثر ما أمرهم الله به، لأنّ هذا هو المعظم والمهم‏.‏

‏{‏فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة‏}‏ الضمير في بينهم يعود على النصارى قاله الربيع‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ النصارى منهم والنسطورية واليعقوبية والملكانية، كل فرقة منهم تعادي الأخرى‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على اليهود والنصارى، أي‏:‏ بين اليهود والنصارى قاله مجاهد، وقتادة، والسدّي‏:‏ فإنهم أعداء يلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم بعضاً‏.‏

‏{‏وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون‏}‏ هذا تهديد ووعيد شديد بعذاب الآخرة، إذ موجب ما صنعوا إنما هو الخلود في النار‏.‏

‏{‏يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير‏}‏ قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع‏.‏ وأهل الكتاب يعم اليهود والنصارى‏.‏ فقيل‏:‏ الخطاب لليهود خاصة، ويؤيده ما روى خالد الحذاء عن عكرمة قال‏:‏ أتى اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الرجم، فاجتمعوا في بيت فقال‏:‏»أيكم أعلم»‏؟‏ فأشاروا إلى ابن صوريا فقال‏:‏»أنت أعلمهم» قال‏:‏ سل عما شئت قال‏:‏»أنت أعلمهم»‏؟‏ قال إنهم يقولون ذلك، قال‏:‏ «فناشدتك الله الذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطور فناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه إفكل، فقال‏:‏ إنّ نساءنا نساء حسان فكثر فينا القتل، فاختصرنا فجلدنا مائة مائة، وحلقنا الرؤوس، وخالفنا بين الرؤوس على الدابرات أحسبه قال‏:‏ الإبل‏.‏

قال‏:‏ فأنزل الله يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب لليهود والنصارى الذين يخفون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجم ونحوه‏.‏ وأكثر نوازل الإخفاء إنما نزلت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري الرسول في مهاجره‏.‏ والمعنى بقوله‏:‏ رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأضيف إلى الله تعالى إضافة تشريف‏.‏ وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوّته، لأنّ إعلامه بما يخفون من كتابهم وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب ولا يصحب القرّاء، دلالة على أنه إنما يعلمه الله تعالى‏.‏ وقوله‏:‏ من الكتاب، يعني التوراة، ويعفو عن كثير أي‏:‏ مما يخفون لا يبينه إذا لم تدع إليه مصلحة دينية، ولا يفضحكم بذلك إبقاء عليكم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ويعفو عن كثير، هو ما جاء به الرسول من تخفيف ما كان شدّد عليهم، وتحليل ما كان حرم عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ لا يؤاخذكم بها، وهذا المتروك الذي لا يبين هو في معنى افتخارهم ونحوه مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم به وتكذيبهم، والظاهر أن فاعل يبين ويعفو عائد على رسولنا، ويجوز أن يعود على الله تعالى‏.‏

‏{‏قد جاءكم نور من الله وكتاب مبين‏}‏ قيل‏:‏ هو القرآن سماه نوراً لكشف ظلمات الشرك والشك، أو لأنه ظاهر الإعجاز‏.‏ وقيل‏:‏ النور الرسول‏.‏ وقيل‏:‏ الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ النور موسى، والكتاب المبين التوراة‏.‏ ولو اتبعوها حق الاتباع لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ هي آمرة بذلك مبشرة به‏.‏

‏{‏يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام‏}‏ أي رضا الله سبل السلام طرق النجاة، والسلامة من عذاب الله‏.‏ والضمير في به ظاهره أنه يعود على كتاب الله، ويحتمل أن يكون عائداً على الرسول‏.‏ قيل‏:‏ ويحتمل أن يعود على الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ سبل السلام، قيل دين الإسلام‏.‏ وقال الحسن والسدي‏:‏ السلام هو الله تعالى، وسبله دينه الذي شرعه‏.‏ وقيل‏:‏ طرق الجنة‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير، والزهري، وسلام، وحميد، ومسلم بن جندب‏:‏ به الله بضم الهاء حيث وقع‏.‏ وقرأ الحسن، وابن شهاب‏:‏ سبل ساكنة الباء‏.‏

‏{‏ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه‏}‏ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أي بتمكينه وتسويغه‏.‏ وقيل‏:‏ ظلمات الجهل ونور العلم‏.‏

‏{‏ويهديهم إلى صراط مستقيم‏}‏ هو دين الله وتوحيده‏.‏ وقيل‏:‏ طريق الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ طريق الحق، وروي عن الحسن‏.‏ والظاهر أنّ هذه الجمل كلها متقاربة المعنى، وتكرر للتأكيد، والفعل فيها مسند إليه تعالى‏.‏

‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ ظاهره أنهم قالوا بأن الله هو المسيح حقيقة، وحقيقة ما حكاه تعالى عنهم ينافي أن يكون الله هو المسيح، لأنهم قالوا ابن مريم، ومن كان ابن امرأة مولوداً منها استحال أن يكون هو الله تعالى‏.‏ واختلف المفسرون في تأويل هذه الآية‏.‏ فذهب قوم إلى أنهم كلهم قائلون هذا القول وهم على ثلاث فرق كما تقدم، وأنهم أجمعوا وإن اختلفت مقالاتهم على أنّ معبودهم جوهر واحد أقانيم ثلاثة‏:‏ الأب، والابن، والروح أي الحياة ويسمونها روح القدس‏.‏ وأن الابن لم يزل مولوداً من الأب، ولم يزل الأب والداً للابن، ولم تزل الروح منتقلة بين الأب والابن‏.‏ وأجمعوا على أن المسيح لاهوت وناسوت أي‏:‏ إله وإنسان‏.‏ فإذا قالوا‏:‏ المسيح إله واحد، فقد قالوا الله هو المسيح‏.‏ وذهب قوم إلى أنّ القائلين هذا القول فرقة غير معينة يقولون‏:‏ إن الكلمة اتخذت بعيسى سواء قدرت ذاتاً أم صفة‏.‏ وذهب قوم إلى أنّ اليعقوبية من النصارى هي القائلة بهذه المقالة، ذكره البغوي في معالم التنزيل‏.‏

قال بعض المفسرين‏:‏ وكل طوائفهم الثلاثة اليعقوبية، والملكانية، والنسطورية، ينكرون هذه المقالة، والذي يقرون به أن عيسى ابن الله تعالى، وأنه إله‏.‏ وإذا اعتقدوا فيه أنه إله لزم من ذلك قولهم بأنه الله انتهى‏.‏ وقد رأيت من نصارى بلاد الأندلس من كان ينتمي إلى العلم فيهم، وذكر لي أنّ عيسى نفسه هو الله تعالى، ونصارى الأندلس ملكية‏.‏ قلت له‏:‏ كيف تقول ذلك، ومن المتفق عليه أن عيسى كأن يأكل ويشرب، فتعجب من قولي وقال‏:‏ إذا كنت أنت بعض مخلوقات الله قادراً على أن تأكل وتشرب، فكيف لا يكون الله قادراً على ذلك‏؟‏ فاستدللت من ذلك على فرط غباوته وجهله بصفات الله تعالى‏.‏ وذهب ابن عباس إلى أنهم أهل نجران، وزعم طائفة منهم أنه إله الأرض، والله إله السماء‏.‏ ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهراً وانتمى إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة‏:‏ كالحلاج، والشوذى، وابن أحلى، وابن العربي المقيم كان بدمشق، وابن الفارض‏.‏ وأتباع هؤلاء كابن سبعين، والتستري تلميذه، وابن مطرف المقيم بمرسية، والصفار المقتول بغرناطة، وابن اللباج، وأبو الحسن المقيم كان بلورقة‏.‏ وممن رأيناه يرمي بهذا المذهب الملعون العفيف التلمساني وله في ذلك أشعار كثيرة، وابن عياش المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق، وعبد الواحد بن المؤخر المقيم كان بصعيد مصر، والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهر من ديار مصر، وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم كان بحارة زويلة‏.‏ وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله يعلم الله ذلك وشفقة على ضعفاء المسلمين، وليحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله تعالى ورسله ويقولون بقدم العالم، وينكرون البعث‏.‏

وقد أولع جهلة ممن ينتمي للتصوّف بتعظيم هؤلاء وادّعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه، والردّ على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ القائلون بأن الله هو المسيح فرقة من النصارى، وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح حظاً من الألوهية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ قيل‏:‏ كان في النصارى من يقول ذلك، وقيل‏:‏ ما صرحوا به، ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر العالم‏.‏

‏{‏قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً‏}‏ هذا ردّ عليهم‏.‏ والفاء في‏:‏ فمن للعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم التقدير‏:‏ قل كذبوا، وقل ليس كما قالوا فمن يملك، والمعنى‏:‏ فمن يمنع من قدرة الله وإرادته شيئاً‏؟‏ أي‏:‏ لا أحد يمنع مما أراد الله شيئاً إن أراد أن يهلك من ادعوه إلهاً من المسيح وأمه‏.‏ وفي ذلك دليل على أنه وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما، بل تنفذ فيهما إرادة الله تعالى، ومن تنفذ فيه لا يكون إلهاً، وعطف عليهما‏:‏ ومن في الأرض جميعاً، عطف العام على الخاص ليكونا قد ذكرا مرّتين‏:‏ مرّة بالنص عليهما، ومرة بالاندراج في العام، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإرادة فيهما‏.‏ وليعلم، أنهما من جنس من في الأرض لا تفاوت بينهما في البشرية، وفي ذلك إشارة إلى حلول الحوادث بهما، والله سبحانه وتعالى منزه أن تحلّ به الحوادث، وأن يكون محلاً لها‏.‏ وفي هذا رد على الكرامية‏.‏

‏{‏ولله ملك السموات والأرض وما بينهما‏}‏ والمسيح وأمه من جملة ما في الأرض، فهما مقهوران لله تعالى، مملوكان له، وهذه الجملة مؤكدة لقوله‏:‏ إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه، ودلالة على أنه إذا أراد فعل، لأنّ من له ذلك الملك يفعل في ملكه ما يشاء‏.‏

‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏ أي أنّ خلقه ليس مقصوراً على نوع واحد، بل ما تعلقت مشيئته بإيجاده أو جده واخترعه، فقد يوجد شيئاً لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه السلام، وأوائل الأجناس المتولد بعضها من بعض‏.‏ وقد يخلق من ذكر وأنثى، وقد يخلق من أنثى لا من ذكر معها كالمسيح‏.‏ ففي قوله‏:‏ يخلق ما يشاء، إشارة إلى أنّ المسيح وأمه مخلوقان‏.‏ وقيل‏:‏ معنى يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة، وكإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك، فيجب أن تنسب إليه ولا تنسب إلى البشر المجرى على يده‏.‏ وتضمن الرد عليهم أن من كان مخلوقاً مقهوراً بالملك عاجزاً عن دفع ما يريد الله به لا يكون إلهاً‏.‏

‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ تقدم تفسير هذه لجملة، وكثيراً ما يذكر القدرة عقيب الاختراع وذكر الأشياء الغريبة‏.‏

‏{‏وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ ظاهر اللفظ أن جميع اليهود والنصارى قالوا عن جميعهم ذلك وليس كذلك، بل في الكلام لف وإيجاز‏.‏ والمعنى‏:‏ وقالت كل فرقة من اليهود والنصارى عن نفسها خاصة‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالت اليهود‏:‏ ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى‏:‏ ليست اليهود على شيء‏.‏ والبنوة هنا بنوة الحنان والرأفة‏.‏ وما ذكروا من أن الله أوحى إلى إسرائيل أنّ أولادك بكري فضلوا بذلك‏.‏ وقالوا‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه، لا يصح‏.‏ ولو صحّ ما رووا، كان معناه بكراً في التشريف والنبوة ونحو ذلك‏.‏ وجعل الزمخشري قولهم‏:‏ أبناء الله، على حذف مضاف، وأقيم هذا مقامه أي‏:‏ نحن أشياع الله ابني الله عزير والمسيح، كما قيل لأشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبيون، وكما كان يقول رهط مسلمة‏:‏ نحن أبناء الله، ويقول أقرباء الملك وحشمه‏:‏ نحن الملوك‏.‏ وأحباؤه جمع حبيب فعيل بمعنى مفعول، أي محبوبوه، أجرى مجرى فعيل من المضاعف الذي هو اسم الفاعل نحو‏:‏ لبيب وألباء‏.‏ وقائل هذه المقالة‏:‏ بعض اليهود الذين كانوا بحضرة الرسول، فنسب إلى الجميع لأنّ ما وقع من بعض قد ينسب إلى الجميع‏.‏ قال الحسن‏:‏ يعنون في القرب منه أي‏:‏ نحن أقرب إلى الله منكم له، يفخرون بذلك على المسلمين‏.‏ قال ابن عياش‏:‏ هم طائفة من اليهود خوفهم الرسول عقاب الله فقالوا‏:‏ أتخوفنا بالله ونحن أبناء الله وأحباؤه‏؟‏ وروي أيضاً عن ابن عباس‏:‏ أن يهود المدينة كعب بن الأشرف وغيره من نصارى نجران السيد والعاقب، خاصموا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فعيرهم الصحابة بالكفر وغضب الله عليهم، فقالت اليهود‏:‏ إنما غضب الله علينا كما يغضب الرّجل على ولده، نحن أبناء الله وأحباؤه‏.‏ هذا قول اليهود، وأما النصارى فإنهم زعموا أنّ عيسى قال لهم‏:‏ اذهبوا إلى أبي وأبيكم‏.‏

‏{‏قل فلم يعذبكم بذنوبكم‏}‏ أي إن كنتم كما زعمتم، فلم يعذبكم بذنوبكم‏؟‏ وكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن‏:‏ نحن ندخل النار فنقيم فيها أربعين يوماً، ثم تخلفوننا فيها‏.‏ والمعنى‏:‏ لو كانت منزلتكم منه فوق منزلة البشر لما عذبكم، وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم، وهذا على أنّ العذاب هو في الآخرة‏.‏ ويحتمل أن يريد به العذاب في الدّنيا بمسخ آبائهم على تعديهم في السبت، وبقتل أنفسهم على عبادة العجل، وبالتيه على امتناعهم من قتال الجبارين، وبافتضاح من أذنب منهم بأن يصبح مكتوباً على بابه ذنبه وعقوبته عليه فتنفذ فيهم، والإلزام بكلا التعذيبين صحيح‏.‏ أما الأول فلإقرارهم أن ذلك سيقع، وأما الآخر فلوقوع ذلك فيما مضى لا يمكن إنكار شيء منه‏.‏

والاحتجاج بما وقع أقوى‏.‏ وخرَّج الزمخشري التعذيبين‏:‏ الدنيوي، والأخروي في كلامه، وأشرب تفسير الآية بشيء من مذهبه الاعتزالي، وحرف التركيب القرآني على عادته، فقال‏:‏ إن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه، فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون، وتمسكم النار في أيام معدودات على زعمكم‏؟‏ ولو كنتم أبناء الله لكنتم من جنس الأب غير فاعلين للقبائح، ولا مستوجبين للعذاب‏.‏ ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه، ولما عاقبكم انتهى‏.‏ ويظهر من قوله‏:‏ ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه، أن يكون أحباؤه جمع حبيب بمعنى محب، لأن المحب لا يعصي من يحبه، بخلاف المحبوب فإنه كثيراً ما يعصي محبه‏.‏ وقال القشيري‏:‏ البنوّة تقتضي المحبة، والحق منزه عنها، والمحبة التي بين المتجانسين تقتضي الاختلاط والمؤانسة، والحق مقدس عن ذلك، والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضاً للقديم، والقديم لا بعض له، لأن الأحدية حقه، وإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد، وإذا لم يكن له ولد لم يجز على الوجه الذي اعتقدوه أن بينهم وبينه محبة‏.‏

‏{‏بل أنتم بشر ممن خلق‏}‏ أضرب عن الاستدلال من غير إبطال له إلى استدلال آخر من ثبوت كونهم بشراً من بعض من خلق، فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث، وهما يمنعان البنوة‏.‏ فإنّ القديم لا يلد بشراً، والأب لا يخلق ابنه، فامتنع بهذين الوجهين البنوة، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله، فبطل الوصفان اللذان ادعوهما‏.‏

‏{‏يغفر لمن يشاء‏}‏ أي يهديه للإيمان فيغفر له‏.‏

‏{‏ويعذب من يشاء‏}‏ أي يورطه في الكفر فيعذبه، أو يغفر لمن يشاء وهم أهل الطاعة، ويعذب من يشاء وهم العصاة‏.‏ قاله الزمخشري‏.‏ وفيه شيء من دسيسة الاعتزال، لأنّ من العصاة عندنا من لا يعذبه الله تعالى بل يغفر له‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنه ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له، أو يمنعه أن يعذبه، ولذلك عقبه بقوله‏:‏

‏{‏ولله ملك السموات والأرض وما بينهما‏}‏ فله التصرف التام يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه‏.‏

‏{‏وإليه المصير‏}‏ أي الرجوع بالحشر والمعاد

‏{‏يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير‏}‏ أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ المخاطب بأهل الكتاب هنا هم اليهود خاصة، ويرجحه ما روي في سبب النزول‏:‏ وأن معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب قالوا‏:‏ يا معشر اليهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله‏.‏ ويبين لكم أي يوضح لكم ويظهر‏.‏ ويحتمل أن يكون مفعول يبين حذف اختصار، أو يكون هو المذكور في الآية‏.‏ قبل هذا، أي‏:‏ يبين لكم ما كنتم تخفون، أو يكون دل عليه معنى الكلام أي‏:‏ شرائع الدين‏.‏

أو حذف اقتصاراً واكتفاء بذكر التبيين مسنداً إلى الفاعل، دون أن يقصد تعلقه بمفعول، والمعنى‏:‏ يكون منه التبيين والإيضاح‏.‏ ويبين لكم هنا وفي الآية قبل في موضع نصب على الحال‏.‏ وعلى فترة متعلق بجاءكم، أو في موضع نصب على الحال، والمعنى‏:‏ على فتور وانقطاع من إرسال الرسل‏.‏

والفترة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام قال قتادة‏:‏ خمسمائة سنة وستون‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة‏.‏ وقيل‏:‏ أربعمائة ونيف وستون‏.‏ وذكر محمد بن سعد في كتاب الطبقات له عن ابن عباس‏:‏ أن كان بين ميلاد عيسى والنبي عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء‏.‏ وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث‏}‏ وهو شمعون وكان من الحواريين‏.‏ وقال الكلبي مثل قول ابن عباس إلا أنه قال‏:‏ بينهما أربعة أنبياء، واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ضيعه قومه»‏.‏ وروي عن الكلبي أيضاً خمسمائة وأربعون‏.‏ وقال وهب‏:‏ ستمائة سنة وعشرون‏.‏ وقيل‏:‏ سبعمائة سنة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ستمائة سنة، وروي هذا عن قتادة والضحاك‏.‏ وذكر ابن عطية أن هذا روي في الصحيح‏.‏ فإن كانا كما ذكر وجب أن لا يعدل عنه لسواه‏.‏ وهذه التواريخ نقلها المفسرون من كتب اليونان وغيرهم ممن لا يتحرّى النقل‏.‏ وذكر ابن سعد في الطبقات عن ابن عباس والزمخشري عن الكلبي قالا‏:‏ كان بين موسى وعيسى ألف سنة وسبعمائة سنة، وألف نبيّ، زاد ابن عباس من بني إسرائيل دون من أرسل من غيرهم، ولم يكن بينهما فترة‏.‏ والمعنى‏:‏ الامتنان عليهم بإرسال الرسل على حين انطمست آثار الوحي، وهم أحوج ما يكونون إليه ليعدوه أعظم نعمة من الله وفتح باب إلى الرحمة، ويلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غلفتهم‏.‏ وأن تقولوا‏:‏ مفعول من أجله فقده البصريون‏:‏ كراهة أو حذار أن تقولوا‏.‏ وقدره الفراء‏:‏ لئلا تقولوا‏.‏ ويعني يوم القيامة على سبيل الاحتجاج‏.‏

‏{‏فقد جاءكم بشير ونذير‏}‏ قيل‏:‏ وفي الكلام حذف أي‏:‏ لا تعتدوا فقد جاءكم بشير، أي لمن أطاع بالثواب، ونذير لمن عصى بالعقاب‏.‏ وفي هذا ردّ على اليهود حيث قالوا‏:‏ ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده‏.‏

‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ هذا عامّ فقيل على كل شيء من الهداية والضلال‏.‏ وقيل‏:‏ من البعثة وإمساكها‏.‏ والأولى العموم فيندرج فيه ما ذكروا‏.‏

‏{‏وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين‏}‏ مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين تمرّد أسلاف اليهود على موسى، وعصيانهم إياهم، مع تذكيره إياهم نعم الله وتعداده لما هو العظيم منها، وأن هؤلاء الذين هم بحضرة الرسول هم جارون معكم مجرى أسلافهم مع موسى‏.‏

ونعمة الله يراد بها الجنس، والمعنى‏:‏ واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغيب كتبهم ليتحققوا نبوّتك‏.‏ وينتظم في ذلك ذكر نعم الله عليهم، وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة‏.‏ وعدّد عليهم من نعمه ثلاثاً‏:‏ الأولى‏:‏ جعل أنبياء فيهم وذلك أعظم الشرف، إذ هم الوسائط بين الله وبين خلقه، والمبلغون عن الله شرائعه‏.‏ قيل‏:‏ لم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء‏.‏ وقال ابن السائب ومقاتل‏:‏ الأنبياء هنا هم السبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه، وكانوا من خيار قومه‏.‏ وقيل‏:‏ هم الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل كموسى ذكره الماوردي وغيره، وعلى هذا القول يكون جعل لا يراد بها حقيقة الماضي بالفعل، إذ بعضهم كان قد ظهر عند خطاب موسى إياهم، وبعضهم لم يخلق بل أخبر أنه سيكون فيهم‏.‏ الثانية‏:‏ جعلهم ملوكاً ظاهره الامتنان عليهم بأن جعلهم ملوكاً إذ جعل منهم ملوكاً، إذ الملك شرف في الدنيا واستيلاء، فذكرهم بأن منهم قادة الآخرة وقادة الدنيا‏.‏ وقال السدي وغيره‏:‏ وجعلكم أحراراً تملكون ولا تملكون، إذ كنتم خدماً للقبط فأنقذكم منهم، فسمي استنقاذكم ملكاً‏.‏ وقال قوم‏:‏ جعلهم ملوكاً بإنزال المن والسلوى عليهم وتفجير الحجر لهم، وكون ثيابهم لا تبلى ولا تنسخ وتطول كلما طالوا، فهم ملوك لرفع هذه الكلف عنهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ملوكاً لأنهم أول من اتخذ الخدام واقتنوا الأرقاء‏.‏ وقال ابن عطية وقتادة‏:‏ وإنما قال وجعلكم ملوكاً، لأنا كنا نتحدث أن أول من خدمه آخر من بني آدم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف، لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل‏.‏ وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم يسخر بعضاً مدة تناسلوا وكثروا انتهى‏.‏

وهذه الأقوال الثلاثة عامة في جميع بني إسرائيل، وهو ظاهر قوله‏:‏ وجعلكم ملوكاً‏.‏ وقال عبد الله بن عمر، والحسن، ومجاهد، وجماعة‏:‏ من كان له مسكن وامرأة وخادم فهو ملك‏.‏ وقيل‏:‏ من له مسكن ولا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك‏.‏ وقيل‏:‏ من له زوجة وخادم، وروي هذا عن ابن عباس‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ من ملك عندهم خادماً وبيتاً دعي عندهم ملكاً‏.‏ وقيل‏:‏ من له منزل واسع فيه ماء جار‏.‏ وقيل‏:‏ من له مال لا يحتاج فيه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق‏.‏ وقيل‏:‏ ملوك لقناعتهم، وهو ملك خفي‏.‏ ولهذا جاء في الحديث‏:‏ «القناعة كنز لا ينفد»‏.‏ وقيل‏:‏ لأنهم ملكوا أنفسهم وذادوها عن الكفر ومتابعة فرعون‏.‏ وقيل‏:‏ ملكوا شهوات أنفسهم ذكر هذه الأقوال الثلاثة التبريزي في تفسيره‏.‏ الثالثة‏:‏ إيتاؤه إياهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، فسره ابن عباس فيما روى عنه مجاهد‏:‏ بالمن والسلوى، والحجر، والغمام‏.‏

وروى عنه عطاء الدار والزوجة والخادم‏.‏ وقيل‏:‏ كثرة الأنبياء‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا، خصوا بفلق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى، وإخراج المياه العذبة من الحجر، ومد الغمام فوقهم‏.‏ ولم تجمع النبوة والملك لقومٍ كما جمعا لهم، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله وأحباؤه وأنصار دينه انتهى‏.‏ وأن المراد كثرة الأنبياء، أو خصوصات مجموع آيات موسى‏.‏ فلفظ العالمين مقيد بالزمان الذي كان فيه بنو إسرائيل، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك‏:‏ قد ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغمامة قبل مبعثه، وكلمته الحجارة والبهائم، وأقبلت إليه الشجرة، وحن له الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه، وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته، وانشق له القمر، وعد العود سيفاً، وعاد الحجر المعترض في الخندق رملاً مهيلاً إلى غير ذلك من آياته العظمى ومعجزاته الكبرى‏.‏ وهذه المقالة من موسى لبني إسرائيل وتذكيرهم بنعم الله هي توطئة لنفوسهم، وتقدم إليهم بما يلقى من أمر قتال الجبارين ليقوي جأشهم، وليعلموا أنّ من أنعم الله عليه بهذه النعم العظيمة لا يخذله الله، بل يعليه على عدوه ويرفع من شأنه، ويجعل له السلطنة والقهر عليه‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ وآتاكم، ظاهره أنه لبني إسرائيل كما شرحناه، وأنه من كلام موسى لهم، وبه قال الجمهور‏.‏ وقال أبو مالك، وابن جبير‏:‏ هو خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وانتهى الكلام عند قوله‏:‏ وجعلكم ملوكاً، ثم التفت إلى هذه الأمة لما ذكر موسى قومه بنعم الله، ذكر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة الظاهرة جبراً لقلوبهم، وأنه آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، وعلى هذا المراد بالعالمين العموم، فإن الله فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، وأسبغ عليهم من النعم ما لم يسبغها على أحد من الأمم، وهذا معنى قول ابن جرير وهو اختياره‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف، وإنما ضعف عنده لأن الكلام في نسق واحد من خطاب موسى لقومه، وهو معطوف على ما قبله، ولا يلزم ما قاله، لأن القرآن جاء على قانون كلام العرب من الالتفات والخروج من خطاب إلى خطاب، لا سيما إذا كان ظاهر الخطاب لا يناسب من خوطب أولاً، وإنما يناسب من وجه إليه ثانياً، فيقوي بذلك توجيه الخطاب إلى الثاني إذا حمل اللفظ على ظاهره‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ ياقُوم بضم الميم، وكذا حيث وقع في القرآن، وروى ذلك عن ابن كثير‏.‏ وهذا الضم هو على معنى الإضافة، كقراءة من قرأ‏:‏ قل رب احكم بالحق بالضم وهي إحدى اللغات الخمس الجائزة في المنادى المضاف لياء المتكلم‏.‏

‏{‏يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله عليكم‏}‏ المقدسة المطهرة، وهي أريحا قاله‏:‏ السدي وابن زيد، ورواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ موضع بيت المقدس‏.‏ وقيل‏:‏ ايليا‏.‏ قال ابن قتيبة‏.‏ قرأت في مناجاة موسى قال‏:‏ اللهم إنك اخترت فذكر أشياء ثم قال‏:‏ رب ايليا بيت المقدس‏.‏ وقال ابن الجوزي‏:‏ قرأت على أبي منصور اللغوي قال‏:‏ ايليا بيت المقدس‏.‏ قال الفرزدق‏:‏

وبيتان بيت الله نحن نزوره *** وبيت بأعلى ايلياء مشرف

وقيل‏:‏ الطور، رواه مجاهد عن ابن عباس، واختاره الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ فلسطين ودمشق وبعض الأردن‏.‏ قال قتادة‏:‏ هي الشام‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقال له جبريل‏:‏ انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس، وهو ميراث لذريتك‏.‏ وقيل‏:‏ ما بين الفرات وعريش مصر‏.‏ قال الطبري‏:‏ لا يختلف أنها ما بين الفرات وعريش مصر قال‏:‏ وقال الادفوي‏:‏ أجمع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار أنها ما بين الفرات وعريش مصر‏.‏ وقال الطبري‏:‏ تظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين انتهى‏.‏

والتقديس‏:‏ التطهير قيل‏:‏ من الآفات‏.‏ وقيل‏:‏ من الشرك، جعلت مسكناً وقراراً للأنبياء، وغلبة الجبارين عليها لا يخرجها عن أن تكون مقدسة‏.‏ وقيل‏:‏ المقدسة المباركة طهرت من القحط والجوع، وغير ذلك قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب، ومنه قيل‏:‏ للسطل قدس لأنه يتوضأ ويتطهر‏.‏ ومعنى كتبها الله لكم‏:‏ قسمها، وسماها، أو خط في اللوح أنها لكم مسكن وقرار‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ وهبها لكم‏.‏ وقال السدي‏:‏ أمركم بدخولها، وفي ذلك تنشيط لهم وتقوية إذا أخبرهم بأنّ الله كتبها لهم‏.‏ والظاهر استعمال كتب في الفرض كقوله‏:‏ ‏{‏كتب عليكم الصيام‏}‏ و‏{‏كتب عليكم القتال‏}‏ وأما إن كان كتبها بمعنى خط في الأزل، وقضى، فلا يحتاج ظاهر هذا اللفظ ظاهر قوله‏:‏ محرمة عليهم‏.‏ فقيل‏:‏ اللفظ عام‏.‏ والمراد الخصوص كأنه قال‏:‏ مكتوبة لبعضهم وحرام على بعضهم، أو ذلك مشروط بقيد امتثال القتال، فلم يمتثلوا، فلم يقع المشروط أو التحريم، مقيد بأربعين سنة فلما انقضت جعل ما كتب‏.‏ وأما إن كان كتبها لهم بمعنى أمركم بدخولها، فلا يعارض التحريم‏.‏ حرم عليهم دخولها وماتوا في التيه، ودخل مع موسى أبناؤهم الذين لم تحرم عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن موسى وهارون عليهما السلام ماتا في التيه، وإنما خرج أبناؤهم مع حزقيل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كانت هبة، ثم حرمها عليهم بعصيانهم‏.‏

‏{‏ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين‏}‏ أي لا تنكصوا على أعقابكم من خوف الجبابرة جبناً وهلعاً‏.‏ وقيل‏:‏ حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا‏:‏ ليتنا متنا بمصر، وقالوا‏:‏ تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر‏.‏ ويحتمل أن يراد‏:‏ لا ترتدوا على أدباركم، في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وانقلابهم خاسرين، إن كان الارتداد حقيقياً وهو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه فمعناه‏:‏ يصيرون إلى الذل بعد العز والخلاص من أيدي القبط‏.‏

وإن كان الارتداد مجازاً وهو ارتدادهم عن دينهم فمعناه‏:‏ يخسرون خير الدنيا وثواب الآخرة‏.‏ وحقيق بالخسران مَن خالف ما فرضه الله عليه من الجهاد وخالف أمره‏.‏

‏{‏قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين‏}‏ أي‏:‏ قال النقباء الذين سيرهم موسى لكشف حال الجبابرة، أو قال رؤساؤهم الذين عادتهم أن يطلعوا على الأسرار وأن يشاوروا في الأمور‏.‏ وهذا القول فيه بعد لتقاعسهم عن القتال أي‏:‏ أنّ فيها من لا نطيق قتالهم‏.‏ قيل‏:‏ هم من بقايا عاد، وقيل‏:‏ من الروم من ولد عيص بن إسحاق‏.‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ قالوا يا موسى فيها قوم جبارون‏.‏

‏{‏وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها‏}‏ هذا تصريح بالامتناع التام من أن يقاتلوا الجبابرة، ولذلك كان النفي بلن‏.‏ ومعنى حتى يخرجوا منها‏:‏ بقتال غيرنا، أو بسبب يخرجهم الله به فيخرجون‏.‏

‏{‏فإن يخرجوا منها فإنا داخلون‏}‏ وهذا توجيه منهم لأنفسهم بخروج الجبارين منها، إذ علقوا دخولهم على شرط ممكن وقوعه‏.‏ وقال أكثر المفسرين‏:‏ لم يشكوا فيما وعدهم الله به، ولكن كان نكوصهم عن القتال من خور الطبيعة والجبن الذي ركبه الله فيهم، ولا يملك ذلك إلا من عصمه الله وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم‏}‏ وقيل قالوا ذلك على سبيل الاستبعاد أن يقع خروج الجبارين منها كقوله تعالى ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط‏.‏

‏{‏قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب‏}‏ الأشهر عند المفسرين أنّ الرجلين هما يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف وهو ابن أخت موسى، وكالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران ويقال فيه‏:‏ كلاب، ويقال‏:‏ كالوب، وهما اللذان وفيا من النقباء الذين بعثهم موسى في كشف أحوال الجبابرة فكتما ما اطلعا عليه من حال الجبابرة إلا عن موسى، وأفشى ذلك بقية النقباء في أسباطهم فآل بهم ذلك إلى الخور والجبن بحيث امتنعوا عن القتال‏.‏ وقيل‏:‏ الرجلان كانا من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه، وأنعم الله عليهما بالإيمان‏.‏ فإن كان الرجلان هما يوشع وكالب فمعنى قوله‏:‏ يخافون، أي‏:‏ يخافون الله، ويكون إذ ذاك مع موسى أقوام يخافون الله فلا يبالون بالعدو لصحة إيمانهم وربط جأشهم، وهذان منهم‏.‏ أو يخافون العدو، ولكن أنعم الله عليهما بالإيمان والثبات، أو يخافهم بنو إسرائيل فيكون الضمير في يخافون عائداً على بني إسرائيل، والضمير الرابط للصلة بالموصول محذوفاً تقديره‏:‏ من الذين يخافونهم أي‏:‏ يخافهم بنو إسرائيل‏.‏ ويدل على هذا التأويل قراءة ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، يخافون بضم الياء‏.‏

وتحتمل هذه القراءة أن يكون الرجلان يوشع وكالب‏.‏ ومعنى يخافون أي‏:‏ يهابون ويوقرون ويسمع كلامهم لتقواهم وفضلهم، ويحتمل أن يكون من أخاف أي يخيفون‏:‏ بأوامر الله ونواهيه وزجره ووعيده، فيكون ذلك مدحاً لهم كقوله ‏{‏أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى‏}‏ والجملة من أنعم الله عليهما صفة لقوله‏:‏ رجلان، وصفا أولاً بالجار والمجرور، ثم ثانياً بالجملة‏.‏ وهذا على الترتيب الأكثر في تقديم المجرور أو الظرف على الجملة إذا وصفت بهما، وجوز أن تكون الجملة حالاً على إضمار قد، وأن تكون اعتراضاً، فلا يكون لها موضع من الإعراب‏.‏ وفي قراءة عبد الله‏.‏ أنعم الله عليهما ويلكم ادخلوا عليهم الباب‏.‏ والباب‏:‏ باب مدينة الجبارين، والمعنى‏:‏ اقدموا على الجهاد وكافحوا حتى تدخلوا عليهم الباب، وهذا يدل على أنّ موسى كان قد أنزل محلته قريباً من المدينة‏.‏

‏{‏فإذا دخلتموه فإنكم غالبون‏}‏ قالا ذلك ثقة بوعد الله في قوله‏:‏ ‏{‏التي كتب الله لكم‏}‏ وقيل‏:‏ رجاء لنصر الله رسله، وغلب ذلك على ظنهم‏.‏ وما غزى قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا، وإذا لم يكونوا حافظي باب مدينتهم حتى دخل وهو المهم، فلأن لا يحفظوا ما وراء الباب أولى‏.‏ وعلى قول أنّ الرجلين كانا من الجبارين فقيل‏:‏ إنهما قالا لهم‏:‏ إنّ العمالقة أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم، وارجعوا إليهم فإنكم غالبوهم تشجيعاً لهم على قتالهم‏.‏

‏{‏وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏ لما رأيا بني إسرائيل قد عصوا الرسول في الإقدام على الجهاد مع وعد الله لهم السابق، استرابا في إيمانهم، فأمراهم بالتوكل على الله إذ هو الملجأ والمفزع عند الشدائد، وعلق ذلك بشرط الإيمان الذي استرابا في حصوله لبني إسرائيل‏.‏

‏{‏قالوا يا موسى لن ندخلها أبداً ما داموا فيها‏}‏ لما كرر عليهم أمر القتال كرروا الامتناع على سبيل التوكيد بالمولين، وقيدوا أولاً نفي الدخول بالظرف المختص بالاستقبال وحقيقته التأبيد، وقد يطلق على الزمان المتطاول فكأنهم نفوا الدخول طول الأبد، ثم رجعوا إلى تعليق ذلك بديمومة الجبارين فيها، فأبدلوا زماناً مقيداً من زمان هو ظاهر في العموم في الزمان المستقبل، فهو بدل بعض من كل‏.‏

‏{‏فاذهب أنت وربك فقاتلا‏}‏ ظاهر الذهاب الانتقال، وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة، ولذلك قال الحسن‏:‏ هو كفر منهم بالله تعالى‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة بالله ورسله وقلة مبالاة بهما واستهزاء، وقصدوا ذهابهما حقيقة لجهلهم وجفائهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل، وسألوا بها رؤية الله جهرة، والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم‏.‏ ويحكى أنّ موسى وهارون خرّا لوجوههما ما قدامهم لشدة ما ورد عليهما فسموا برجمهما، ولأمر ما قرن الله اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتجدن أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا‏}‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن لا يقصدوا الذهاب حقيقة، ولكن كما تقول‏:‏ كلمته فذهب يحبيني، يريد معنى الإرادة والقصد للجواب، كأنهم قالوا‏:‏ اريد إقبالهم‏.‏

والمراد بالرّب هنا هو الله تعالى‏.‏ وذكر النقاش عن بعض المفسرين هنا أن المراد بالرّب هارون، لأنه كان أسن من موسى، وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره، فكأنهم قالوا‏:‏ اذهب أنت وكبيرك‏.‏ وهو تأويل بعيد يخلص بني إسرائيل من الكفر‏.‏ وربك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بالضمير المنفصل، وقد تقدّم الكلام على ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ ورددنا قول من ذهب إلى أنه مرفوع على فعل أمر محذوف يمكن رفعه الظاهر، فيكون من عطف الجمل التقدير‏:‏ فاذهب وليذهب ربك‏.‏ وذهب بعض الناس إلى أن الواو واو الحال، وربك مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف‏.‏ أو تكون الجملة دعاء والتقدير فيهما‏:‏ وربك يعينك، وهذا التأويل فاسد بقوله فقاتلا‏.‏

‏{‏إنا ههنا قاعدون‏}‏ هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال، ولا على الرجوع من حيث جاءوا، بل أقاموا حيث كانت المحاورة بين موسى وبينهم‏.‏ وها من قوله هاهنا للتنبيه، وهنا ظرف مكان للقريب، والعامل فيه قاعدون‏.‏ ويجوز في مثل هذا التركيب أن يكون الخبر الظرف وما بعده حال فينتصب، وأن يكون الخبر الاسم والظرف معمول له‏.‏ وهو أفصح‏.‏

‏{‏قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي‏}‏ لما عصوا أمر الله وتمردوا على موسى وسمع منهم ما سمع من كلمة الكفر وسوء الأدب مع الله ولم يبق معه من يثق به إلا هارون قال ذلك، وهذا من الكلام المنطوي صاحبه على الالتجاء إلى الله والشكوى إليه، ورقة القلب التي تستجلب الرّحمة وتستنزل النصرة ونحوه قول يعقوب‏:‏ ‏{‏إنما أشكو بثي وحزني إلى الله‏}‏ وعن علي أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال المنافقين فما أجابه إلا رجلان، فتنفس الصعداء ودعا لهما وقال‏:‏ أين تتبعان مما أريد‏؟‏ والظاهر إنّ وأخي معطوف على نفسي، ويحتمل أن يكون وأخي مرفوعاً بالابتداء، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه أي‏:‏ وأخي لا يملك إلا نفسه، فيكون قد عطف جملة غير مؤكدة على جملة مؤكدة، أو منصوباً عطفاً على اسم إنّ أي‏:‏ وإن أخي لا يملك إلا نفسه، والخبر محذوف، ويكون قد عطف الاسم والخبر على الخبر نحو‏:‏ إن زيداً قائم وعمراً شاخص، أي‏:‏ وإنّ عمراً شاخص‏.‏ وأجاز ابن عطية والزمخشري أن يكون وأخي مرفوعاً عطفاً على الضمير المستكن في أملك، وأجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور‏.‏ ويلزم من ذلك أنّ موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان إلا نفس موسى فقط، وليس المعنى على ذلك، بل الظاهر أنّ موسى يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط‏.‏ وجوز أيضاً أن يكون مجروراً معطوفاً على ياء المتكلم في نفسي، وهو ضعيف على رأي البصريين‏.‏

وكأنه في هذا الحصر لم يثق بالرجلين اللذين قالا‏:‏ ادخلوا عليهم الباب، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما عاين من أحوال قومه وتلونهم مع طول الصحبة، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في ثباته‏.‏ قيل‏:‏ أو قال ذلك على سبيل الضجر عندما سمع منهم تعليلاً لمن يوافقه، أو أراد بقوله‏:‏ وأخي، من يوافقني في الدين لا هارون خاصة‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ إلا نفسي وأخي بفتح الياء فيهما‏.‏

‏{‏فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين‏}‏ ظاهره أنه دعا بأن يفرق الله بينهما وبينهم بأن يفقد وجوههم ولا يشاهد صورهم إذا كانوا عاصين له مخالفين أمر الله تعالى، ولذلك نبه على العلة الموجبة للتفرقة بينهم وبين الفسق فالمطيع لا يريد صحبة الفاسق ولا يؤثرها لئلا يصيبه بالصحبة ما يصيبه، ‏{‏واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة‏}‏ ‏{‏أنهلك وفينا الصالحون‏}‏ وقبل الله دعاءه فلم يكونا معهم في التيه، بل فرق بينه وبينهم، لأن التيه كان عقاباً خص به الفاسقون العاصون‏.‏ وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما‏:‏ المعنى فافصل بيننا بحكم يزيل هذا الاختلاف ويلمّ الشعث‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فافرق بيننا وبينهم في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق، وعليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم، ولذلك وصل به قوله‏:‏ فإنها محرمة عليهم، على وجه التشبيه‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير ويوسف بن داود‏:‏ فافرِق بكسر الراء وقال الراجز‏:‏

يا رب فافرق بينه وبيني *** أشدّ ما فرّقت بين اثنين

وقرأ ابن السميفع‏:‏ ففرق‏.‏ والفاسقون هنا قال ابن عباس‏:‏ العاصون‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الكاذبون‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ الكافرون‏.‏

‏{‏قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض‏}‏ أي قال الله تعالى فأضمر في قال وضمير، فإنها إلى الأرض المقدّسة محرّمة عليهم، أي محرم دخولها وتملكهم إياها وتقدّم الكلام على انتظام قوله‏:‏ ‏{‏كتب الله لكم‏}‏ مع قوله محرمة عليهم، ودل هذا على أنهم بعد الأربعين لا تكون محرمة عليهم‏.‏ فروي أن موسى وهارون عليهما السلام كانا معهم في التيه عقوبة لهم وروحاً وسلاماً لهما، لا عقوبة، كما كانت النار لابراهيم ولملائكة العذاب‏.‏ فروي أن موسى سار بعد الأربعين بمن بقي من بني إسرائيل، وكان يوشع وكالب على مقدمته، ففتح اريحا وقتل عوج بن عنق، وذكروا من وصف عوج وكيفية قتل موسى له ما لا يصح‏.‏ وأقام موسى فيها ما شاء الله ثم قبض‏.‏ وقيل‏:‏ مات هارون في التيه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولم يختلف في هذا‏.‏ وروي‏:‏ أنّ موسى مات في التيه بعد هارون بثمانية أعوام‏.‏ وقيل‏:‏ بستة أشهر ونصف‏.‏ وقيل‏:‏ بسنة ونبأ الله يوشع بعد كمال الأربعين سنة فصدقه بنو إسرائيل، وأخبرهم أن الله تعالى أمره بقتال الجبابرة فصدّقوه وبايعوه، وسار فيهم إلى اريحا وقتل الجبارين وأخرجهم، وصار الشام كله لبني إسرائيل‏.‏

وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين، وقد ألمّ بذكر وقوف الشمس ليوشع أبو تمام في شعره فقال‏:‏

فردت علينا الشمس والليل راغم *** بشمس بدت من جانب الخدر تطلع

نضا ضوؤها صبغ الدجنة وانطوى *** لبهجتها ثوب السماء المجزع

فوالله ما أدري أأحلام نائم *** ألمت بنا أم كان في الركب يوشع

والظاهر أن العامل في قوله‏:‏ أربعين محرمة، فيكون التحريم مقيداً بهذه المدة، ويكون يتيهون مستأنفاً أو حالاً من الضمير في عليهم‏.‏ ويجوز أن يكون العامل يتيهون أي‏:‏ يتيهون هذه المدة في الأرض، ويكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة، بل يكون إخباراً بأنهم لا يدخلونها، وأنهم مع ذلك يتيهون في الأرض أربعين سنة يموت فيها من مات‏.‏ وروي أنه من كان جاوز عشرين سنة لم يعش إلى الخروج من التيه، وأنّ من كان دون العشرين عاشوا، كأنه لم يعش المكلفون العصاة، أشار إلى ذلك الزجاج، ولذلك ذهب إلى أن العامل في أربعين محرمة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون العامل في أربعين مضمراً يدل عليه يتيهون المتأخر انتهى‏.‏ ولا أدري ما الحامل له على قوله‏:‏ إن العامل مضمر كما ذكر‏؟‏ بل الذي جوز الناس في ذلك أن يكون العامل فيه يتيهون نفسه، لا مضمر يفسره قوله‏:‏ يتيهون في الأرض‏.‏ والأرض التي تاهوا فيها على ما حكى طولها ثلاثون ميلاً، في عرض ستة فراسخ، وهو ما بين مصر والشام‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تسعة فراسخ، قال مقاتل‏:‏ هذا عرضها وطولها ثلاثون فرسخاً‏.‏ وقيل‏:‏ ستة فراسخ في طول اثنى عشر فرسخاً، وقيل‏:‏ تسعة فراسخ‏.‏ وتظافرت أقوال المفسرين على أن هذا التيه على سبيل خرق العادة، فإنه عجيب من قدرة الله تعالى، حيث جاز على جماعة من العقلاء أن يسيروا فراسخ يسيرة ولا يهتدون للخروج منها‏.‏ روي أنهم كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي ابتدأوا منه، ويسيرون النهار جادين حتى إذا أمسوا أذاهم بحيث ارتحلوا عنه، فيكون سيرهم تحليقاً‏.‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ كانوا يسيرون النهار أحياناً والليل أحياناً، فيمسون حيث أصبحوا، ويصبحون حيث يمسون، وذلك في مقدار ستة فراسخ، وكانوا في سيارة لا قرار لهم انتهى‏.‏ وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتلين، وذكروا أنّ حكمة التيه هو أنهم لما قالوا‏:‏ ‏{‏إنا هاهنا قاعدون‏}‏ عوقبوا بالقعود، فصاروا في صورة القاعدين وهم سائرون، كلما ساروا يوماً أمسوا في المكان الذي أصبحوا فيه‏.‏ وذكروا أن حكمة كون المدّة التي تاهوا فيها أربعين سنة هي كونهم عبدوا العجل أربعين يوماً، جعل عقاب كل يوم سنة في التيه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة، وقلة اجتماع الرأي، وأنه تعالى رماهم بالاختلاف، وعلموا أنها حرّمت عليهم أربعين سنة، فتفرّقت منازلهم في ذلك الفحص، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع حتى كملت هذه المدة، وأذن الله تعالى بخروجهم، وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر‏.‏

والآخر الذي ذكره مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى‏.‏

‏{‏فلا تأس على القوم الفاسقين‏}‏ الظاهر أن الخطاب من الله تعالى لموسى عليه السلام‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ندم موسى على دعائه على قومه وحزن عليهم انتهى‏.‏ فهذه مسلاة لموسى عليه السلام عن أن يحزن على ما أصاب قومه، وعلل كونه لا يحزن بأنهم قوم فاسقون بهوت أحقاء بما نالهم من العقاب‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالفاسقين معاصروه أي‏:‏ هذه فعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردّهم عليك فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم‏.‏